كنت قد أتممت عامي الحادي عشر حين أدركت جانبًا جديدًا من جوانب شخصيتي، فعلى عكس اِعتقاد الجميع بأن الطفل يولد ساذجًا غريبًا عن فهم نفسه، أنا أومن بأن الإنسان يولد شديد الإدراك لذاته حتى يتغرب عنها كلما تقدم بالعمر، لذا تعجبت حين أدركت ذلك الجانب الجديد؛ لكني أحببته وأحببت ميس هند معلمة اللغة الإنجليزية التي ساعدتني على اِكتشافه.
على مدار سنوات دراستي الأولى وضعت خطوطًا واضحة لقيمة الأشياء بحياتي، واطمئننت لها، وكانت جميعها لا تمت لرؤى الكبار وقواعدهم بصلة، فلم أهتم للجلوس بانتباه داخل الفصل خلال جميع الحصص، إذ أنني كنت لا أهوى المواد جميعها، وبالتالي لا شيء يجبرني على الانتباه المطلق. لم أكن أهتم بأن أكون عند حسن ظن الأساتذة على غرار بقية التلاميذ، وحتى أخطائي المتكررة النابعة من قلة التركيز لم تضايقني، وكرهي لمادة الحاسب الآلي لم يدفعني للاهتمام بها، وعدم فهمي للوغاريتمات النوتة الموسيقية ساعدني في تجنب مخاطبة ود معلمة الموسيقى للانضمام للكورال. حتى مادة اللغة العربية لم أهتم لجميع أجزائها، يكفيني حبي للقصة والتعبير ومواضيع القراءة، ولا يضايقني ضعفي في النحو والنصوص، أما الـMath فكنت أحبه إلى درجة حل التمرينات قبل مواعيد شرحها بالفصل، غير مهتمة بغضب المعلمة من وراء ذلك، الغضب الذي بلغ بها أحيانًا حد طردي من الفصل بأكمله، والأسوء أنني لا أتذكر إذا كنا أخذنا موضوع الدرس أم لا، لذا لا أتذكر مسح أجوبتي لتجنب غضبها. وأمر النسيان لم يكن يضايقني لإيماني الكامل بأن عقلي يتخلص من زوائد لا قيمة للاحتفاظ بتفاصيل أكثر قيمة.
أما عن اللغات، فقد أقنعت والدتي بأن تتصالح مع الخمس درجات التي أنقصها بانتظام في امتحانات اللغة الفرنسية، ولم أهتم باستعادتهم في الامتحان التالي، أما عن اللغة الإنجليزية والتي تمثل اللغة الرسمية بالمدرسة، فلم تكن علاقتي بها سيئة؛ لكني لا أستمتع بها، بل وأستمتع بيوم توزيع الدرجات بالامتحان، لأشاهد زملائي وهم يبكون وقد نقصوا درجة أو نصف، فأتعجب منهم، إذ أنني في قرارة نفسي أدرك أنه لا يمكن الحصول فيها على الدرجة كاملة. وقد استقر الأمر كتشريع داخل نفسي، فكنت أحتفل إذا نقصت أربع درجات، ولا أغضب كثيرًا لو زاد عن ذلك، لاسيما أنَّ حصة الإنجليزي غالبًا ما يتبعها حصة الرسم، والذي أجد فيه متسعًا من الفراغ الأبيض لوضع كل ما تتوق له مشاعري من ألوان تعبر عنها.
كنت أتعمد مخالفة الموضوع المطروح للرسم عنه، أو أتناوله من ناحية لا تقترب من مقترح المعلمة، فما الفائدة من التزامنا جميعًا بمقترح يخلق منا نسخًا مكررة؟ أي إبداع سيأخذ مساحته في الظهور من خلف التكرار؟ ربما يبدو الكلام مثيرًا لإعجابك عزيزي القارئ؛ لكن صدقني لم يكن تنفيذه هينًا على طفلة في الثانية عشر من عمرها، لأن ذلك يعني التنازل الكامل عن تشجيع المعلمة، إذا لم يحدث الأسوء وانقلب الرفض إلى سخرية خاصة إذا بدا المقترح عجيبًا أوغير مكتملاً، فمثلا لم أستسلم يومًا لقرار رسم علم وجندي على لوحة تتحدث عن حرب أكتوبر، بينما البعض كان يرسم الأهرامات الثلاثة وكأن الحرب وقعت في الجيزة – لا لوم عليهم إذا كان هذا مقترح المعلمة – ورفضي الدائم للمقترحات جعلني أعتاد مشهد اللوحة البيضاء الفارغة لمدة طويلة، هذا إلى جانب إعجابي بالألوان المدمجة بعيدًا عن الأشكال ومحاولتي تجربتها. وكانت التجربة الأولى مريعة أعطت مساحة غير هينة لسخرية المعلمة، ونصحتني بالالتزام بما أراه أمامي على اللوح الخشبي.
هكذا كانت وتيرة حياتي، التي خلقتها تتناسب مع طبيعتي، فأحببتها؛ لكن تغيرت الأوضاع بالصف الرابع الابتدائي، ويرجع الفضل بالتغير إلى سؤال طرحته عليّ معلمة الإنجليزية الجديدة ميس هند ذات يوم، بعد توزيع درجات الامتحان:
– لماذا لا تحصلين على درجة أعلى يا نور طالما تحصلين عليها في المواد الأخرى؟
– لأني لا أحب اللغة الإنجليزية (كهذا جاءت إجابتي ببساطة)
– لكن لماذا لا تحبينها؟
عجزت عن إجابة سؤالها، لأني في الحقيقة لا أكره الإنجليزية ولا يصعب علي مذاكرتها، لذا لم يرد بخاطري غير إجابة واحدة:
– لست من الطلاب الذين يحصلون على درجة مرتفعة بالامتحانات
– لماذا؟
هززت كتفي لأني حقًا لا أملك إجابة عن سؤالها، كان يقينًا ترسخ داخلي بأني لست منهم، ولأن نفسي ترفض قبول فكرة عجزي عن تحصيل درجة مادة، تبلورت داخلي في صورة عدم رغبة بالأمر، لم أنتبه وقتها إلى أن إجابتي فضحت أمرًا غير هين من تهاون الأساتذة، ما دفع معلمة اللغة الإنجليزية إلى البحث خلف درجاتي بباقي المواد، وأدائي بالأنشطة.
لم يكن الأمر صعبًا لأن الطلبة المجانين والسرحانين قلة، ومن المعلومات التي جمعتها لم تجد سببًا يدفعني لقول ذلك إلا أمرًا واحدًا وهو الأكثر شيوعًا بين المعلمين، ببساطة لا أحد يحب الطلبة المشاكسين، هؤلاء الذين يعتقدون أن أفكارهم تستحق الخروج للعالم، والحديث عنها بوقاحة تكفي لكسر القوالب النمطية، لذا تمت قولبتي أنا شخصيًا داخل إطار الفتاة المشاكسة، التي لايمكن إدعاء بلادتها، لكن لا ينسب إليها لقب المتفوقة، لأنه ببساطة لقب يتطلب عوامل أخرى، أهمها الطاعة، وهو أمر لا أعترف به من الأساس، وفي الوقت ذاته أنا لا أميل إلى اختلاق المشكلات، لذا كانت النتيجة أن تركوني داخل عالمي، لأن ولوجهم إليه سيتطلب إجابة على أسئلتي التي لن أتنازل عنها، أو على الأقل النظر إلى أفكاري على أنها موضوع يستحق الاحترام والإجابة، وهي أمور لن ينشغل بها المعلمون لأجل فتاة واحدة، تنسى الإجابة على الاسئلة بظهر الورقة، وتعجز عن الاحتفاظ بتركيزها طوال مدة الحصة، ولا تتذكر الواجب المطلوب منها أمس، وتريد قضاء وقتها بالرسم العجيب والكتابة السخيفة.
ببساطة أدركت ميس هند العلة، والعجيب أنها آمنت بقدراتي إيمانًا مطلقًا، وعلى مدار الحصص التالية ذكرتني بأن درجتي سترتفع لأني أستطيع فعلها، وطالما أستطيع فلا يجب أن أحرم نفسي مكانة أستحقها، ومن ناحيتي كان السر بسيطًا فقد أحببتها، وأحببت الهيئة التي تراني عليها، وإصرارها على التأكد من انتباهي لكل ما تقوله بالحصة.
على مدار عام كامل تحققت معجزات كثر، لعل أهمها انتباهي الكامل لكل كلمة تتفوه بها في الحصة، لدرجة أني لازلت أتذكر إلى الآن كلمات إنجليزية بصوتها، عجزت جميع الأصوات التي رددتها من بعدها عن إزالتها من رأسي. وتحققت نبوأتها من شهر لآخر، وتحسنت درجاتي بالإنجليزية، بل وبباقي المواد، فقد أزلت جميع الآراء المسبقة التي تلقيتها من الأساتذة عن قدراتي، وبنهاية العام الدراسي حققت المركز الأول على المدرسة، والرابع على الإدارة التعليمية، وهي واحدة من المرات القليلة التي وصل فيها اِسم المدرسة للترتيب على مستوى متفوقي الإدارة، وحتى يومنا هذا لازال درع الثقة بالذات الذي بنته داخلي متواجد، ربما اِهتز قليلاً، أو كادت تخور قواه؛ لكني لازلت أدين بالفضل لها، كأول من شيد دعائمه.
وهذا شكر وتحية مني لكل أستاذ اِستطاع رؤية أمر جميل داخل طفل لا يراه أحد.