قرأتُ رسالتي الاولى لك من غربتي والتي تعدى عمرها العشرين عاماً. كنت اخبرك فيها أن أدوارنا تبدلت وسافرتُ انا آنذاك بدلاً منك. اما أنت فكان استقرارك أخيراً في لبنان قد جاء متأخراً لابنتك الصغيرة التي لم تشبع منك.
رسالتي تلك احتفظتْ بها شقيقتي و لم أترددْ في تركها لها. انا لا أعرف كيف أحافظ على بقايا الكلمات والصور. ولا اذكر اني اقتنيتُ مرة البومَ صور.
كنت قد استقلْتُ كذلك من الكتابة لك. وبطلب منك، صرت أرمي بمشاعري كلّها في خندق اللهو والأحلام لعلّ رصاصةً طائشة ترمي بي قتيلة وأُصنّف أخيراً بضحية حربٍ ما.
أليس هذا مصيرُنا؟
انما لا، انا تركت ذلك المكان الذي يموت كل يوم، وان كنت أحيا على حافة العالم، هنا حيث لا موت الا من البرد ومن تكاثر السنوات التي لا حاجة لها، ومن ضجر كبير ينخر رؤوسنا كالسوس فنموت فارغين تماماً! لكني وفي حسابات عالمنا اليوم أُعتبر حيَة. بعكسك تماماً!
أطال الله بعمرك يا أبي! لكنها ثمانون عاماً من المحاولات الفاشلة في العيش، اخبرني كيف عشتَها؟
كم نشرة أخبار تابعت
وكم صحيفة بدّلت؟
وما هي وصيتك فيما يخص المانشيت التي ستصدر بعد رحيلك؟
كم مانشيت أودت بك صريع الأحلام التي لم تتحقق؟
كنتَ في الرابعة والعشرين من عمرك أثناء حرب حزيران.
بالمناسبة، ربما لم اخبرْك أن أسماء حروبنا الصغيرة تلك التي تهزمنا تغيظني،
حرب الشهور!
مرة حزيران، ومرة أكتوبر ومرة اخرى تموز.
أما أول حرب شهدتها عن جدارة فكانت حرب نيسان…
شهر ميلادي!
بالعودة الى حربك الاولى بعد النكبة!
صليتَ كثيراً في ماراكاييو وانت تتابع صوت العرب ربما وتكاد تحتفل بالنصر! اخبرتني كيف صليتَ لكنك لم تخبرني كيف بكيت بعدها.
هل توقفتَ عن البكاء من يومها؟
ادركُ شعورك المحطمَ ذلك تماماً.
في صباح الخامس عشر من شباط شلّني ذلك الشعور وكنت أبكي على مقعدِ الدراسة ولا ارى وجه رفيق الحريري على خد أحد!
وفي تموز ٢٠٠٦، غادرتني رفيقتي صبيحة قَتْلِ الجنديين، وبقيتُ بمفردي أعدّ الضحايا و أزينُ كميات الباطون التي سقطت تحت كل جسر وفي كل وادٍ على مدى شهر كامل.. وبقيت أعدّ!
حتى كبر جيل جديد، وانتشرت السوشيل ميديا فوصلنا الى انفجار المرفأ محصنين بشعارات التضامن وكأن العالم كلّه صار يشاهد معي!
أخيراً!
تخيل حتى التلفزيون المحلي أجرى معي مقابلة يومها، وصار بإمكاني التعبير عن مشاعري صوت وصورة!
طيب ستقول لي هذه المرة “غير”
اريد ان اصدقك يا أبي.
لكن هل تصدق نفسك؟
تأخر الوقت وانا نصفُ نائمة اكتب لك تحت لحافي!
التدفئةُ المركزية في شتاء كندا لا تحتمل غطاءً سميكاً واحذاً فكيف باثنين!
لكنني شعرتُ بالبرد هذه الليلة..
لعلّها عقودي الاربعة والتعب الذي صار شريكَ جسدي، وبعض الأوجاع التي لا بد منها، هذه كلها مجتمعة ساهمت في عدم إحساسي بالحرارة حولي.
انا لا اشعر بشيءٍ
Numbed
هي الترجمة الإنجليزية الصحيحة لما اشعرُ به.
أيحزنُك انني صرتُ ارتاحُ للغةٍ ثانية أكثر؟
وصرتُ أحاورُها وأسمعُها وأفكرُ من خلالها.
لم اخبرْك بذلك في رسالتي الاولى لك.
لم اتوقع ذلك في رسالتي الاولى لك.
بل كتبتُ لك عن بطلك عبد الناصر وعن الشتاء الأخير الذي تابعنا فيه مسلسل صلاح الدين معاً.
كان يحرر القدس كذلك!
وسأعترف لك الآن ان لا بطلَ لي!
لا أعرف هل هو امرٌ ايجابي ان لا يكون لي بطل وأن لا اخبر صغيرتيّ عنه، أم أن هذا أمر سلبي، سلبي للغاية!
لا بطل لي.. لا لغة لي..
لا وطنَ لي!
وأعيشُ في نصف الكرة الأرضية التي لا يطالها الموت، إلا الطبيعي منه.
وتعيش انت مع أبطال كثرٍ وروايات عربية
وأرضِ وطنٍ ثمينةٍ ستدفن فيها
وتحديداً في النصف الميّت من الكرة الأرضية!
مع ذلك تخيلّ أنكم هناك تموتون “ببلاش”
وهنا نشتري قبورَنا الجاهزةَ كجزء من تكاليفِ الحياة.