“أريد أن يشمّ القارىء عطري عندما يقرأ نصّي” (حياة الرايس)
سرٌّ سببه العشق والندم، يبدأ من نهاية رواية (لو يعود…) للأستاذة ريزا ميشال داوود، الصادرة حديثًا عن دار سائر المشرق للنشر. عندما تنتهي عبارة الختام “لو يعود بي الوقت إلى الخلف… حبّذا لو يعود… ولكن إلى أين؟!)” تتأكّد أن كلّ امرأةٍ مهملة هي مشروع “شهيدة حيّة” فداءً للحبّ والأحاسيس
مائتا صفحة إلّا صفحة، تغلغلت فيها الأحاسيس المليئة بالحبّ، القناعة، الاشمئزاز، النفور، الخيانة بالفكر والجسد، الاختلاجات الروحية المميتة، الرعشات، اللذّة و القهر. تسلّلت إلى الفكر نابضة في عروق الأنا، هادرة في ذكريات عمر من طعن مستقبله بطيش ماضيه، ولو على حساب قلبه
بطلةٌ من دون اسمٍ ملأت الصفحات، هاربة من الداء إلى البلاء. بعد زواجها من المحامي كمال وإنجابها ثلاث فتيات، اصطدمت بجدار شوك نبت على سرير بارد، غادر فضاءه القمر، أصبحت لياليه ظلماء. لم يعد يحتضن الاختلاجات وانهزمت على فراشه النشوة. بسبب لامبالاة زوجها، خرجت من جغرافية السرير إلى فضاء اللذّة التي حُرمت منها. ليس بدافع الحب فقط بل لإثبات أنوثة المرأة التي تسكنها، ففقدت نضارتها وذبلت فوق حدّة الأشواك التي طعنتها في الصميم
ملّت اجتراح الأمل لأن أحلامها لا تسأم في الأعماق. فقررت عدم الانهزام والخضوع لواقع متهالك. ابتسامة في مقهى حين انتظار أختها، نسجت وحيًا وأشعلت شعورًا على قارعة جسدها الملهوف. وكان لقاء وموعد مع من داعب الأقحوان على حفافي قدرها
لماذا لم تطلق الراوية اسمًا على بطلة القصّة ولا على كنية زوجها، وأطلقت اسمًا وكنيةً على عشيقها (ألكسندر نجّار)؟ هل لأن الأول امتلك جسدها لفترةٍ وأودع روحها في عاصفة تائهة؟ أم لأنّ الثاني نزع رماد حواسها من ليل عدمها، وجعلها ترتشف عبير حواسه الجيّاشة، فأصابتها لعنة عطره المشابه لشذا الزيزفون الفوّاح الذي لا تعقد أزهاره؟ أم لأنّ ندمًا من وراء خيانتها، جعلها نكرة ولامبالية بفرح الحياة، المتواري خلف غمام تجربتها؟
خلاف أختها مع زوجها، اهتماماتها العائليّة وواجباتها تجاه تلامذتها، لم تجعلها تحيد عن دربٍ أوصلها إلى ملاذها الأروع. فراحت تتأرجح شقاوة بين كشف سرّها ورقصها عارية على عتبات روحها. مسترسلة لكلامه الجميل المنمّق الذي داعب شعورها المرهف، فباحت له بحبها قُبَلًا كبوح القصب للريح
زُرعت الأشواك مجددًا على سرير آخر عند لامبالاة ألكسندر بأحاسيسها بعد نشوته الأولى معها، وكأنها وُجدت للنشوة. فكلّ الحبّ والحنان في البداية كان بوصلة إلى كدر النهاية
عندما يصبح السرير بلاطة تُصلب عليها المشاعر، وكفنًا يلفّ الشهوات، تخاف المرأة من الليل “أخاف من الليل لأنّه يشعرني بفشلي ويسرق مني أحلام صباحي.” تشتهي الحبّ بشغف في عاصفة لقاء تبدّد حياء الروح وتزيل خجل الجسد “أقسم أنّه خلع عني ملابسي بعينيه”. كما يقال (عين الحبّ عميا) هكذا “حينما دخل… لا أعرف كيف اختفى جميع من حولي في المقهى”. تنشد الزوجة مداعبة أحلامها وإحياء مشاعرها، كي لا تُغتصب أحاسيسها ويُرهق وفاؤها “لو لم يهملني لما كان باستطاعة ألكسندر اختراق دفاعاتي”. العوز العاطفي يجعل “فعل الاغتصاب شيء مثير”. لأن الأنوثة بحاجة لفرح يدغدهها، والشهوة بحاجة إلى فم ينفخ هواء الغزل إذكاءً لنارها، “لا يعوزه الكثير من الكلام ليقنعني”
عندما حقّقت حلمًا ليس من حقّها، كرهت جسدها ولم تتصالح مع نفسها، ابتعدت عن مبادىء اكتسبتها بتربيتها، نبذت حنانًا حل مكانه عشقها “أتصنّع الأمومة التي ما عادت تليق بي.” يتهالك الوقت ويسكن الأرق على مفارق الدروب. لماذا عندما يعيد الواقي الذكري صواب عاشقة ككفٍّ مؤلم، لا تعود من الاغتراب عن وطن مشاعر ارتضته لمصيرها؟. جلست وحيدة في زاوية صمت وراء سواد جدار بعزلة موحشة، تكتب هلوسات الليل مناشدة أمنيات توارت في حلكة الليل
عندما تقرأ رواية (لو يعود…) تتأنّق مشاعرك كشعور العشق عند بطلتها. لأنها قصّة تترك خيالك شريدًا مع غيمة تشتهي عناق حبرها، كمطر شريد خارج ضفاف المعقول، مترقرقًا في أفياء حلم طائش ومغامرة في بحر دون شطآن
روايةٌ وضعت السعادة خارج الانتصارات الواهية. منحت السلام الروحي الروتيني لمن لا يتجرّأ خوض حماس
المغامرة. فضحت السائرين بكلّ احتشام القدّيسين في الدروب العاهرة. حضنت حكاية المرأة المهمّشة، الحائرة بين العشق المحجوب والواجب المرغوب. روت معانيها عطش القارى الأبديّ لحقول الفرح وهراء القدر. اختلست الوقت العابر، وجعلته فراشًا لرحيق الهوى، وملاذًا للهاربة من الصقيع الروحي
كلّ يومٍ هنالك امرأة، قد تصدمها الحياة بما يشابه هذه القصّة. تشعر معها بالاشمئزاز والقرف، كما أنّك تحزن عليها، وتبقى مناصرتك لها نابعة من إنسانيّتك وليس من شعورك بالشفقة. فما زالت عقول وألسنة المجتمع تحرّكها التقاليد، مانحة الحرّية لتصرّفات الذكور، واضعة هالة حول معاصيهم، شامتة بنساء هاربة من ظلم دفن مشاعر الحبّ في أجساد أبت أن تستكينَ فيها الحسرات، وتكون عيونها منبعًا لدموع لا تغسل اختلاجات الصدور
قد لا نستطيع التحكّم بعبث أقدارنا، لكن يجب أن نملكَ القدرة والابتسامة لتصويب كلّ دربٍ وحبّ
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل