
لقد استطاعت اليابان، خلال العقود القليلة الماضية، أن تُبهر العالم بقفزاتها التكنولوجية والعلمية المتسارعة، حتى غدت من كبريات الدول الصناعية، منافسةً بذلك أعرق الدول الغربية قدمًا في مضمار التقدم. فقد طوّرت بنيتها التحتية، وعززت مؤسساتها التعليمية، وحققت إنجازات فارقة في ميادين العلوم والاقتصاد والتقنية. ولذا، لم يكن غريبًا أن تُتخذ نموذجًا يُحتذى، وتجري حول تجربتها مقارناتٌ متعددة، خاصة في العالم العربي، بحثًا عن سرّ نهوضها وفاعلية مؤسساتها وصرامة نظامها.
غير أن هذا البناء المادي المتماسك، يخفي خلف جدرانه الزجاجية وأبنيته الشاهقة، خللًا روحيًا واجتماعيًا عميقًا. فاليابان التي اختارت أن تُراكم الرأسمال وتُعظّم الإنتاج وتُعلي من قيمة “العقلنة الاقتصادية”، فعلت ذلك على حساب المشاعر، والعلاقات الاجتماعية، والروح الإنساني الذي هو ركيزة الاستقرار الداخلي. إنها، باختصار، دفعت ثمناً باهظاً في إنسانها، قبل أن تدفعه في اقتصادها!
أرقام تُفزع.. لكنها لا تُفاجئ!
في تقرير لوزارة الصحة اليابانية صدر مطلع عام 2025، سُجّلت 20,268 حالة انتحار خلال عام 2024، وهو ثاني أدنى رقم منذ عام 1978، ومع ذلك تبقى الأرقام صادمة في السياق الإنساني. أما حالات انتحار الطلاب، فقد بلغت 527 حالة في عام واحد فقط، وهو الرقم الأعلى المُسجل على الإطلاق منذ بدء جمع البيانات الرسمية.
(nippon.com)
(arabic.news.cn)
وتشير الإحصاءات إلى أن الفئات العمرية الأكثر عرضة للانتحار هم من هم في الخمسينيات، تليهم فئة الأربعينيات، وذلك غالبًا بسبب التقاعد الإجباري أو الإخفاق المهني أو العزلة الاجتماعية.
أما الأسباب، فتتراوح بين:
مشاكل صحية مزمنة (11,986 حالة).
ضغوط معيشية واقتصادية (5,075 حالة).
اضطرابات أسرية واجتماعية (4,334 حالة).
أمّا المأساة الأكبر فتتمثل في اكتشاف جثث بعض المنتحرين بعد أسابيع أو أشهر من وفاتهم، دون أن يفتقدهم أحد. وقد أصبحت هذه الظاهرة تعرف باسم “كودوكوشي” (الموت الوحيد)، وهي مؤشر خطير على ضعف البنية الاجتماعية وشبه انعدام الروابط الإنسانية في المدن اليابانية.
سؤال الهوية: أيّ ثقافةٍ نزرع؟
يحق لنا أن نسأل: ما نوع الثقافة التي تُغرس في أذهان الأجيال، حين يصبح الفشل المهني سببًا كافيًا للموت؟ ما الجدوى من كل هذا التقدّم التقني إن لم يُفضِ إلى سعادة داخلية أو سكينة وجودية؟
لقد غلّبت اليابان – وللأسف – معيار الكفاءة على الرحمة، والإنتاجية على الإنسانية، والانضباط الآلي على الدفء العاطفي.
إنها ثقافة مادية متطرفة، تُدمن العمل وتُقصي الهشاشة البشرية، حتى غدا الإنسان فيها مُجرد ترسٍ في آلة عملاقة، لا يُكترث بانكساره ما دام يُنتج!
البوصلة الغائبة: أين الإيمان؟
ليس من الغريب أن تنهار مجتمعات تُقصي الإيمان من معادلتها القيمية.
لقد آن الأوان لليابان – ولغيرها – أن تدرك أنّ التكامل بين العقل والقلب، بين الإنجاز والمغزى، بين الرغيف والروح، هو أساس كل نهوضٍ مستدام.
فلا يُمكن لعجلة الاقتصاد أن تحلّ محلّ دفء العلاقات الأسرية، ولا يمكن للذكاء الصناعي أن يعوّض عن فقدان الأم، أو غياب الحبيب، أو عزاء الإيمان.
نعم، إن الشعوب لا تقوم على المادة وحدها، بل على قلبٍ نابضٍ، وروحٍ مُتّصلة بالمعنى، ومجتمعٍ لا يترك أبناءه يموتون في صمتٍ بين جدران الاسمنت البارد.
خاتمة
لقد صنعت اليابان حضارةً متقدّمة، لكنها – وللأسف – لا تزال تبحث عن معنى إنسانها. وما لم تُراجع ثقافتها الاجتماعية، وتُعيد الاعتبار للروحانيات، والمشاعر، والمحبّة، فلن يكون الغد أرحم من الأمس.