صبري يوسف
آنذاك كنتُ في الخامسة من عمري .. كم كنتُ أحبُّ الذِّهابَ مع أمّي إلى السُّوقِ. وعندما كنتُ أذهبُ معها كانت تقولُ لي: امسكْ فستاني ولا تفلّتُهُ كي لا تضيعَ في زحمةِ السُّوقِ. في إحدى المرّات منعَتْني من الذِّهابِ معها وقالتْ: اليوم لا يوجدُ أحدٌ في البيتِ وعليكَ أنْ تبقى بجانبِ أختِكَ الصَّغيرة وتنتبهَ عليها جيّداً وتهزَّ سريرَها عندما تبكي. وقبلَ أنْ تخرجَ أمّي من البيتِ وعدتني بأنّها ستجلبُ لي معها كمشة راحة وكمشة سكاكر من السُّوقِ، شريطةَ أن أبقى عندَ أختي حتّى عودتها
راقبْتُ أمّي من بعيد إلى أنْ قطعَتِ الزُّقاقَ المؤدّي إلى الشَّارعِ العريضِ ثمَّ رجعْتُ لألقي نظرةً على أختي الصَّغيرة الَّتي ما كانتْ تتجاوزُ عامَها الأوّل. اِقتربْتُ منها إلى أن أصبحْتُ بجوارِ سريرِها وبدأتُ أصغي إلى تنفّسِها الهادئ .. وشيءٌ ما في داخلي كانَ يدفعُني أنْ أرفعَ غطاءَها وأنظرُ إليها .. رفعْتُ الغطاءَ بهدوءٍ، كانَتْ تغطُّ في نومٍ عميق .. شعرْتُ أنّ الأطفالَ لهم صلة بالملائكة .. جمالهم، براءَتهم، رائحة جسدهم الطَّريّ. كلّ هذه الْجَماليات تصبُّ في عالمِ الملائكة. اِنحنيْتُ قليلاً وقبّلتها قبلتَين، على كلّ خدٍّ قبلة. اِرتعشَ وجهُها. شعرْتُ أنّها جفلَتْ ولكنّها لم تستيقظْ من نومِها. اِنتظرْتُ لحظات وأنا أمعنُ النّظرَ فيها للتأكّدِ من اِستمراريَّتها في النَّومِ .. ثمَّ قلْتُ لها “وأنا أخاطبُ نفسي” : لا تفيقي من النَّوم، سأذهبُ وألعبُ قليلاً وآتي في الحالِ. وخرجْتُ إلى الشَّارعِ لألعبَ معَ رفاقي
تأخّرْتُ حوالي ساعة ثمَّ عدْتُ إلى المنزلِ قبلَ عودةِ أمّي، لأنّي كنتُ أعلمُ بأنّها ستتأخّرُ أكثرَ من ساعةٍ. وفيما كنْتُ أعبرُ الحوشَ، سمعْتُ أختي تبكي بصوتٍ عالٍ، فأسرعْتُ إليها مضطرباً وكشفْتُ غطاءَ سريرِها فوجدْتها عرقانة ويداها تتحرّكان على إيقاعاتِ بكائِها. اِرتبكْتُ كثيراً وخفْتُ على أختي الصَّغيرة من جهة، وخفْتُ أنْ تأتي أمّي وتكشفَ أمري. لا أعرفُ ماذا أتصرّفُ؟ وسرعانَ ما وجدْتُ نفسي أهزُّ سريرَها .. ولكن بكاءها كانَ يزداد طرداً باِزديادِ عمليّة الهزِّ. وكلّما كانت تبكي بصوتٍ عالٍ، كنتُ أهزُّها بسرعةٍ أكثر، متوقِّعاً بأنَّ عمليّةَ الهزِّ ستساعدُها على النَّومِ أو التَّوقُّفِ عن البكاءِ. لم أشعرْ إلّا وأنا أبكي معها أيضاً .. وبدأتُ أذرفُ الدُّموعَ كالمطرِ، ثمَّ أمسكْتُ يدَها الصَّغيرة وقلتُ لها أبوس إيدكِ لا تبكَي، ورفعْتُ صوتي وأنا أقول: لا تبكَي، لا تبكَي، لا تبكَي .. لو جاءَتْ ماما الآن ووجدتْكِ في هذه الحالة “ستقتلُني”
خطرَ على بالي وأنا في هذه الحالة الميئوس منها، أنْ أجلبَ لها كأساً من الماء، لأنّني كنتُ أرى أمّي أحياناً تعطيها قليلاً من الماءِ، عندما كانت تبكي أو تستيقظُ من نومِها .. فهرعْتُ إلى المطبخِ وأمسكْتُ كوباً ووضعتُهُ في الجرّة. كانت الجرّة عالية قليلاً ولم أتمكَّنْ أنْ أصلَ إلى الماءِ .. فوقفْتُ على رؤوسِ أصابعي، ومعَ ذلكَ لم أستطِعْ أنْ أصلَ إلى الماءِ. إتّكأتُ على الجرّةِ تماماً ثمَّ أصبحَ كلّ ثقلي على الجرّة، وقَعَتِ الجرّة وانكسرَتْ وتناثرَ ماؤها فنسيتُ أختي وتبلّلتُ بالماءِ. تضاعفَ خوفي وبقيتُ جامداً في مكاني. وفجأةً سمعْتُ صوتاً عالياً يردِّدُ
“هاوارو على بيتي بنتي ماتتْ
كانت أمّي قدْ وصلَتْ من السُّوقِ فأسرعَتْ وأخرجَتْ أختي من سريرِها وضمّتْها إلى صدرِها وطبطبَتْ على ظهرِها بهدوءٍ ونبرَتْ يإيقاعٍ موسيقي. لا أمّي، أمّي، أمّي! .. “هذا المقصوف العمر تركَكِ وحدَكِ وراحَ يلعب”. وأنا كنْتُ ماأزالُ في المطبخِ أبكي. سمعَتْ أمّي صوتي فجاءَتْ على الفورِ. وقفْتُ وأنا أرتجفُ من الخوفِ. نظرْتُ إلى أمّي متمتماً: جئْتُ كي آخذ كأس ماء “للببيّة” والجرّة اِنكسرَتْ بلا قصدي
عندما وجدتْني أمِّي أصفرَ اللَّونِ وخائفاً جدّاً، لم تتفوّه بكلمة بخصوصِ الجرّة ولم تسألني عن بكاءِ الببيّة واكتفَتْ بالقولِ لا تبكي عيني الجرّة اِنكسرَتْ سلامة رأسك، المهم أنتَ بخير؟
أيوه، أنا بخير ولكنّ الببيّة لم تشربْ ماء
“معليش” خلّيك عند أختكَ، سأذهبُ وأجلبُ سطل ماء من البئر
عندما خرجَتْ أمّي وبقيتُ وحدي عندَ أختي، سألتُها: لماذا كلّ ذلكَ البكاء يا شقيّة؟
.. كانتْ تنظرُ إليّ وهي صامتة، ترمشُ عينيها الجميلتين، تبتسمُ وأبتسمُ معها أنا الآخر، وأفرحُ لاِبتسامتِها العطرة .. تنظرُ إلى السَّقفِ وتحرّكُ يديها بعفويّةٍ مبهجة. اِنحنيْتُ وضمّيتُها إلى صدري، وباِلكادٍ كنتُ أستطيعُ حمْلها .. اِختلَّ توازني قليلاً ثمَّ ثبَّتُّ أقدامي وهمسْتُ لها: أبوسكِ يا أختي لقد خلّصني بكاؤكِ من العقابِ .. وبدأتُ أقبِّلُها وأقبِّلُها
وبعدَ لحظات جاءتْ أمّي وهي تحملُ سطلَ الماء على كتفِها، وأنزلتْهُ بهدوء .. ثمَّ قدَّمَتْ كوباً من الماءِ للببيّة. شربَتْ كثيراً كغيرِ عادتِها، ثمَّ شربْتُ أنا الآخر .. وكان الماءُ يتدفَّقُ على صدري كما تدفَّقَ ماءُ الجرّة!!
ديريك: 4 . 3 . 1986
* هوامش
هاوارو (هاوارا)، كلمة عاميّة تعني يا مصيبتي