في ليلة من ليالي الشتاء الباردة الممطرة المتشحة بالسواد المثقلة بالظلمة الكالحة، كنت كعادتي خلف مقود سيارتي أتجول بين الطرقات باحثة عن لحظة سكينة أفرغ فيها ما امتلأ به رأسي من صخب اليوم، وهموم الغد، وذكريات الماضي…
وعند الإشارة وقفت برهة لعابر طريق لم أصدق ما رأيته عيناي_كأنه هو _ أعدت النظر مرة أخرى نعم إنه هو بتلك الخطوات المتثاقلة، وتلك العينين العسليتين اللتين يكتنفهما الجمود، تغير قليلًا فقد ظهرت أخاديد حفرتها السنون، والأعوام على صفحة وجهه، واشتعل شعره البني بالشيب. تمتمتُ قائلة: لقد مرّ وقت طويل… لقد مرّ وقت طويل على تلك اللحظة التي قلبت حياتي رأسًا على عقب، أعلنت فيها تمردي على سجنك، وكسرت قيدك الذي طوق عنقي بكل جسارة …وكأنها بالأمس عندما وقفت منتفضة ثائرة بعينين ملؤهما التحدي معلنة التخلي عن ميثاقنا مشيعة إياه في كفن أبيض بكل زهوٍ وفخر، مودعة ذلك الخراب الذي زرعته في صدري لأعوام عدة من عمري، لم تستطع محاولاتك المستميتة، ولا عهودك، و وعودك بالتغيير فقد بلغ اليأس منتهاه في عالم نسجته من خيوط كذبك…
لكن… لكن … ماذا بي ؟ لماذا تسري هذه القشعريرة في جسدي ؟ و أنا أراه يعبر الطريق إلى الجانب الآخر دون أن ينتبه لوجودي …تملكني القلق وأعلن لحظة عودتي إلى أدراجي دون أن أكمل طريقي المعتاد … رجعتُ مسرعة إلى منزلي، وفي كل خطوة أخطوها نحوه أعود أميالًا إلى الماضي، تفاجأت بأن الأسى الذي زرعه_ هذا العابر _في صدري مازالت جذوره ممتدة تحاصر الروح، وأنيابه تنهش الفؤاد، وتلوك الماضي بذكرياته، وأن الخيبة التي كنت أظنها قد ماتت، ودُفنت في داخلي، قد بُعثت من جديد، جلست معها في تلك الليلة نجتر الخذلان سويًّا، نحطم مرايا أكذوبة السماح التي أتشدق بكلماتها في محافل حزني، وأنشد ترانيمها على مسامع حرقتي، وكأن العمر الذي مر قد تلاشت سنينه وكأنه شيئ لم يكن.