د. نورالدين محمود سعيد أستاذ النقد والتحليل في الجامعات الليبية
معرض “آفاق” للفنان التشكيلي الليبي، الكبير المبدع د. بشير حمودة، انتعشنا كثيراً برؤية إبداعه من جديد، في معرضه الجميل الذي يقام هذه الأيام، ببيت اسكندر في المدينة القديمة طرابلس، شرفني بأمانة أستاذي الدكتور بشير حمودة، في أن أخصه بحديث يكون ضمن كتاب معرضه، شكراً أيها العزيز على الثقة، مع أملي أن أكون قد فعلت شيئاً يستحق القراءة أمام قامات إبداعكم، كل التقدير والإعتزاز
موسيقى اللون، في أعمال الفنان بشير حمودة
يبتكر الفنان بشير حمودة شخصياته، ومناظره، في تعبير تجريدي من حين لآخر، من خلال جوقة موسيقية بصرية تعزف كونشيرتو ليبي محلي تماماً، لكنه في ذات الوقت، يمتلك خصائصه العالمية، في “تناغم” متزن ومحسوب بشكله الرياضي، الهندسي، مع أشكال أخرى (اهليجية ناقصة) وبطريقة متعمدة، ليُطَعِّمَها في خطوط ألوانه التي تخلق جوقتها النغمية، من خلال حكاية بصرية كاملة، في أعمال يمكن قراءتها من كل اتجاهات اللوحة، أغلب أعماله تتعامل مع الحلم الممزوج بالواقع، ومع الواقع الممزوج بعناصر سريالية في أحياناً أخرى، ليس ذلك فحسب، لكنه يخلخل بطريقته هذا الحلم، ليطوعه في الألم وفي الشجن كذلك، رغم اتخاذه من هذا الألم معنىً مخفياً وليس ظاهراً، لكنه في المقابل، يفيض سعادة خالصة، خصوصاً في لوحاته المعبرة عن مجتمعه وعن وطنه بأسره، بطرق إبداعية تخصه وحده، متمثلة في الوحدة الكاملة للكتل وتوزيعها في فضاء اللوحة؛ نحن لا نرى واقعاً، على الرغم من أنه واقع، وهنا يتحول الفن التشكيلي عند حمودة، ليس مجرد صنعة، لكنه فناً خالصاً يتحد في لغة تشكيلية، هي المحصلة “الأبستمولوجية” الكبرى التي بنى عليها خبراته الفنية والفكرية معاً
أعمال الفنان بشير حمودة “أفكار رؤيويه” مجسدة، الوجوه البشرية عنده، جانحة إلى حلمها الآسر، في محياها، في تقاطيعها وفي سماتها، ثائرة ومستعدة للصراع، في مواطن الجمال والبهجة، وفي مواطن العبث والألم كذلك، ثمة دائماً، وفق هذه الأفعال، سمات جمالية
الكُنه الأشمل في أعمال هذا الفنان، لا يعبر عن وحدة صنعة فقط، بل عن وحدة إبداع فن يستدرج الفلسفة كي تتجادل معه في المعاني العميقة للغة التشكيلية؛ سنلاحظ ذلك في العديد من لوحاته: همس شخصية الأنثى مثلاً، وهسهسة مشاعرها حين تسر لصاحبتها بشيء ما؛ نحن نسمع كلاماً من خلال خطوط مصبوغة حمراء قانية في خلفية اللوحة، ممتزجة بالأسود والأزرق، تبعث في شخوصها حركة دؤوبة، لغة ألسنية غير مسموعة، تظهر بالعلامة التأويلية للون والشكل، متناغمة مع لغة أيقونية محترفة وجادة، سنلاحظ كذلك، همس المدن الليبية لقُرَاها وصحاريها وامتزاج أبهتها من خلالها، في ترابطها، وفي حديثها عن شجنها، وعن أمجادها، في قياسات رسمِها، بدقة هندسية، لكنها تحمل لغة بصرية استفادت من كل التيارات الفنية، من الواقعية إلى التعبيرية الى ما بعد الحداثة، ثم الغوص في التكعيبية حد الوله، لكنها تكعيبية حمودية إن جاز التعبير، وليست بيكاسوية إن شئنا التسمية؛ لقد كان لطرابلس (مثلاً) في بعض أعماله حظها الوافر بين أنامله، في ريشته العاشقة، التي تنسج بدقة هيامه، وكأنه يحترف صناعة “حوكي” نول طرابلسي، ليبهرنا برداء من الحرير، يتناغم مع حضور كامل لسيدة ليبية فاتنة تتجسد في ملامح فن لا في ملامح واقع عادي.
ليس الفن عند، هذا المعلم، إعادة واقع، كما أسلفنا، لا في المناظر الطبيعية، التي تظهر على هيئة مغايرة، ولا في الوجوه التي تفنن فيها في بداياته، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، في ليبيا وفي روما أثناء دراسته فيها أيضاً، وحتى في بودابست التي أكمل فيها دراساته الدقيقة للفنون التشكيلية، أنت ترى وجهاً وقد “مططه الألم” إلى الخارج، أو، “زَمَّه” إلى الداخل، ليمنح مساحاته التعبيرية على أقصى مدى من المغازي السيمائية التي تخفي نفسها، منتظرة أن تفيض في لغة أخرى مغايرة، ثمة تعبير عن صرخات وهمسات، تظهر، لكنها تبطن معاناتها، مستعينة بالإشارة والعلامة، لا بالكلام المباشر المفهوم، جيد أن نكون مفهومين، لكنه من البائس أن تتضح أعمالنا في صور مكشوفة ومكتشفة، كأنني سمعت الفنان بشير حمودة يهمس بذلك في لوحاته، سِفر مجاني من الحكمة، وسَفر بلا تذكرة، إلى مواطن اللحظة التي لا نراها ماثلة بسهولة، في واقعنا
على الرغم من اختلاف موضوعاته الفنية، ستجد رابطاً لأسلوب واحد متماسك تماماً داخلها، لتعرف فيما بعد، حين ترى لوحة ما من أعماله، في أي مكان، وحتى بلا توقيع عليها، بأن هذه اللوحة ستكون دونما ريب، لـ بشير حمودة، لأنك وببساطة ستستمع إلى هارموني في موسيقا الألوان يجذبك صوبها، لتمارس معها فن القراءة الخالصة لما هو متحرك، ونابض بالحياة في رحم اللوحة، دالاً صافياً وأنيقاً، يشير بكل علاماته إلى ما بعده، في أسلوب هذا الفنان، بكامل أصالته الفنية، صدق واضح المعالم، مكوناً فناً محلياً، متكامل الملامح العالمية
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل