كتب جمال فياض/ أضواء المدينة
يستحق كاظم الساهر عناء السفر لحضور حفله في إهدن، هذه البلدة – المدينة البعيدة عن بيروت أكثر من مئة كيلومتر، والقريبة من القلب بأقلّ من واحد سنتيمتر. لذا، كان لا بدّ من الذهاب تلبية لدعوة إدارة مهرجان “إهدنيات”. وهي ليست المرّة الأولى، فقد سبق وسافرت هذه المسافة، ولأجل كاظم أيضًا… وفي كلّ مرّة، أستنتج أن عناء المشوار لم يكن شيئًا، أمام جمال وروعة حضور كاظم، ورقيّ موسيقاه وقصائده التي يختارها بعناية ليلحنها ويغنّيها.
هذه المرّة، كانت الرحلة أكثر من رائعة، وكتبت في كاظم ما كتبته… لكنّ المفاجأة اللطيفة كانت عندما تلقيت في اليوم التالي اتصالًا من الفنان الجميل، اتصالًا يشكرني فيه على حضوري، لا على ما كتبته.
تصلني رسالة على “واتساب” من شخص يعمل معه: “مرحبًا، أنا عصام، الأستاذ كاظم يريد التحدث إليك”، فأجيب: “أهلاً ومرحبًا”… فأتلقى الاتصال:


– مرحبًا، كيف حالك؟ زمان ما تكلمنا…
فأجيب سعيدًا:
– أهلًا وسهلًا، ما هذه المفاجأة الجميلة؟
يسألني عن أحوالي، فأجيبه:
– أنا بأحسن حال، طالما شاهدتك وسمعتك واستمتعت بهذا الحفل الرائع… اشتقنالك!
قال: لمحتك أمس بين الحاضرين، فقلت لنفسي: ربما شخص يشبهك، ما الذي سيأتي بك إلى كل هذه المسافة وهذا المكان؟
قلت: بل لأجلك أسافر وأسعى لحضور حفلك. وسأسرّ لك بشيء: كنت مرتبطًا بحفل لصديقنا المشترك عاصي الحلاني، لكني قلت: عاصي موجود في لبنان ويمكن حضور حفلاته لاحقًا، أما أنت، ففرصة نادرة…
قال: بعد الحفل، سألت إذا كنتَ أنت من رأيت، فقالوا لي إنك كنتَ فعلًا… ليتك مررت على الكواليس، ليتنا التقينا، كنت على الأقل سلّمت عليك، فنحن لم نلتقِ منذ زمن، وأنت عزيز.
قلت: لم أشأ أن أزعجك، فأنا أعرف كيف يكون الفنان بعد الحفل، ولا يصحّ إزعاجه. ويكفيني أني سمعتك، وهذا يكفي…
قال: وما رأيك؟ أعجبك الحفل؟
قلت: أي سؤال هذا؟ بل أنت أبدعت وأجدت وأبهرت… لقد أعدت زمن حفلات فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. فقط هذه الأسماء كانت تصل إلى هذا الحجم من الانفعال والتفاعل من الجمهور.
قال: الحمد لله، ما زال الجمهور يحبّنا، وما نقدّمه يحمّلنا مسؤولية الحفاظ على مستوى الحبّ والإعجاب.
قلت: لاحظت أمرًا مهمًا، أن جمهورك الحاضر يحفظ كل أغانيك بشكل مختلف عن غيرك. فالعادة أن الجمهور يحفظ المذهب، وأحيانًا الكوبليه، لكن جمهورك يحفظ القصائد كلّها، من أوّلها حتى آخرها. لاحظت أن أغلب الحاضرين كانوا يرافقونك غناءً في كل أغنية أو قصيدة من البداية حتى النهاية.
قال: هي مسؤولية الفنان، أن يقدّم الجميل والراقي، من الشعر والكلام، ورفض التهاون بمستوى ما أختاره يدلّ على أن الجمهور في لبنان وفي كل بلادنا العربية جمهور راقٍ ومثقف. والحمد لله، ما زال جمهورنا وفيًّا ويقدّر هذا المستوى.
قلت: أنت أثبتّ بلا جدل أن الجمهور فعلاً يريد هذا الفن، وليس كما يُشاع ظلمًا بأننا في زمن الغناء السهل والبسيط والسطحي. إنّ هذا الحضور، وبهذا القدر والعدد، يدلّ على أنك أنت الصح، وأن مثلك هو من يرفع الفنّ إلى مستوى يليق به وبجمهوره.
قال: الحمد لله، وفي لبنان جمهور كبير يسعدني ويفرحني دائمًا بحضوره وتفاعله.
قلت: هل لاحظت الحضور من السياسيين اللبنانيين؟ فإلى جانب السيدة الأولى، كان النائبان طوني فرنجيه وفيصل كرامي وعائلتاهما بين الحضور. وهذا إن دلّ، فعلى تقديرك وتقدير فنّك.
قال: هذا يسعدني ويشرّفني، كما كل من حضر من اللبنانيين، والعرب من كل البلدان المجاورة. كلّما كبر النجاح، وارتفع مستوى الجمهور، زادت المسؤولية. والحمد لله، أنا لا أتهاون بأيّ عمل أقدّمه.
قلت: أرجوك وأتمنّى عليك أن تكثر من هذا الفن، وأن لا تتخلّى عن القصيدة، فاللغة العربية لم يعد لها جمهورها، وأنت ربما الوحيد الذي ما زال يتبنّاها بمحبة، لتظلّ متداولة لدى الجيل الشاب اليوم. فمنك، ومنك فقط، ما زال الشباب اليوم يقرأ الشعر ويحفظه.
قال: هي هوايتي ومهمتي ومُناي، أن نظلّ نحفظ للقصيدة مستواها وجمال حضورها. وأشكرك على الحضور، وآمل أن نلتقي قريبًا.
وانتهت المكالمة هنا… لكن الذكريات عادت بي إلى زمن بعيد نسبيًا. يوم اتصل بي المنتج اللبناني علي المولى، وكان مكتبي في شارع الحمرا في بيروت، وقال لي: “سآتي أزورك ومعي شخص يجب أن تتعرّف عليه”… وبالفعل، ما هي إلا دقائق حتى وجدته في مكتبي ومعه شاب وسيم، هادئ ورصين، وفي نظرته خجل وتواضع، وبصوت هادئ جدًّا سلّم وجلس، وبدأ عليّ يتحدث عنه. وكلّما ذكر ميزة من ميزاته الفنية، ازداد خجلًا وحياءً.
قال: “هذا شاب عراقي اسمه كاظم الساهر، تعرّفت عليه في عمّان، وهو مشهور في العراق، وله عدد من الأغاني المعروفة، وسنعمل على دعمه في لبنان لينطلق ويأخذ فرصته في النجاح عربيًا، انطلاقًا من لبنان”.
طالت الجلسة حينها ساعة وأكثر، وكنت أنظر إليه وأزداد إعجابًا به، فهو لطيف الحديث، هادئ الصوت، يبتسم بكاريزما غير عادية، يخطف القلب، وينتزع الحبّ والإعجاب بسهولة. في ختام الزيارة، أعطاني علي المولى شريط “كاسيت” عليه بعض الأغاني بصوته، لأستمع إليه…
بعد الزيارة، اتصل بي المولى وسألني: “ما رأيك؟ أعجبك الشاب؟” قلت: “بل أبهرني… هذا الشاب سيكون نجمًا بلا شك ولا تردّد. لديه قبول رهيب، وصوته الذي سمعته في الشريط ساحر. هذا مطرب حقيقي، قماشة صوته ذهبية، وفي صوته شخصية مميزة وفريدة. ستكون نجوميته سريعة ولامعة، وسيحقّق نجاحًا كبيرًا بأسرع وقت”.
وما هي إلا أيام وأسابيع قليلة، وبدأنا نسمع أغانيه في الإذاعات: “سلّمتك بيد الله”، و”عبرت الشط”… وانطلقت الأغاني بجنون، فسيطر كاظم على الجو العام، ووصلت الأمور إلى أن يسجّل جورج وسوف أغنية “سلّمتك بيد الله” بصوته، وهو الذي كان في تلك المرحلة نجم النجوم بلا منازع. ثم قامت مادونا، التي كانت نجمة نجمات لبنان، بتسجيل أغنية “عبرت الشط على مودك” بصوتها… وتحول كاظم الساهر إلى حالة لا يمكن وصفها بسهولة. فما أن يطلق أغنية، حتى يسارع كبار وصغار النجوم لتسجيلها وغنائها في حفلاتهم. فقد سجّل عاصي الحلاني، وهو كان نجمًا صاعدًا، أغنية “يا رايحين لبنان”… وكان نادرًا أن تجد نجمًا يغني في حفل، ولا يغني أغاني كاظم الساهر.
لم يقف كاظم عند هذا فقط، بل استمر وتطوّر، ولم يَسْكر بالنجاح الكبير. بل حافظ على مستوى أغانيه واختياراته، حتى وصل إلى ما وصل إليه…
ظلّ كاظم يتصل في مناسبات كثيرة، وكنت كلما كتبت تحليلاً موسيقيًّا عن ألبوماته في مجلة “زهرة الخليج”، يتصل ويناقشني في بعض ما أكتبه. وكنت ألاحظ جيدًا كيف كان يأخذ ببعض الملاحظات الفنية في الألبومات اللاحقة… كاظم الساهر دقيق ودؤوب في عمله، لا يترك أمرًا يمرّ دون أن يدقّق فيه ويصحح ما يجب تصحيحه. وما هذا النجاح الكبير الذي حققه إلا نتيجة هذه العناية الفائقة التي يوليها لفنه وعمله، وهذا الاحترام الكبير لجمهوره. فهو لا يتهاون بأي تفصيل، لأن احترام فنه من احترامه لجمهوره.
كاظم الساهر ليس مجرّد مطرب ناجح، وملحن موهوب، وموسيقي متفوّق يلحّن أغانيه وقصائده، بل هو مؤلف موسيقي قدير. في أغلب أغانيه، الموسيقى تخصّه وحده. نادرًا ما تجد جملة موسيقية مستعارة أو دخلت عالمه عن طريق الاشتباه أو التأثّر.
كاظم الساهر اليوم، يحتل المكانة التي كانت محجوزة في زمن ما لعبد الحليم حافظ، ويحفظ معها جزءاً من مساحة بليغ حمدي، ومحمد الموجي،وكمال الطويل، فعبد الحليم كان يطير بأجنحة هؤلاء … وكاظم لا يجد مثل هذه الأجنحة، ووجد نفسه يصنعها بنفسه لنفسه.. وهي ميزة مرهقة، لكنها الحلّ الوحيد الممكن في زمن “المواهب القليلة”.
في الحانب الشخصي، كاظم الساهر فنان حسن السيرة والسلوك، لم نسمع عنه إلا ما يشرّف بلده وشعبه وأهله. لم يخض يومًا في قضية أو جدل أو مهاترة. لم ينتقد أحدًا من زملائه. قليل الكلام، كثير النجاح. كل من عمل أو تعامل معه، ما قال فيه إلا أجمل الكلام. لم يتعمد يومًا أن يدخل في لعبة الشدّ والجذب الإعلامي. يصمت مهما كانت مواجهات الآخرين صاخبة. حتى عندما خاض تجربة لجنة التحكيم في البرامج التلفزيونية الشهيرة، لم يتصرف أي تصرف لجذب الانتباه أو كما يُقال “يسرق الكاميرا”. وكان كل هذا الهدوء والصمت والسكون والرصانة، أكثر صخبًا وضجيجًا من كل الصخب والضجيج.
كل الزملاء كانوا يسمّونه “الساهر”، وأنا، مذ عرفته ومن أول لقاء، سمّيته “الساحر”…
وما زلت عند كلامي!