
يولد الإنسان مزوَّدًا بتقنيّاتٍ طبيعيَّةٍ مرنةٍ تتفاعل مع محيطها، فتأخذ منه وتعطيه لتضيف إليه هويَّةً أكثر حضارةً، وسمةً وصورةً أكثر حيويَّةً ونضارةً. وممّا تميَّز به الإنسان عن سائر الكائنات القدرة على التَّفكير وأداتها العقل الَّتي على أساسها كان منشأ التَّكليف، تكليف عمارة الأرض. ومع إمعان الإنسان في الابتكار والإبداع، راح يفكِّر بابتكار وسائل تدخَّلت بناموس الخليقة وبنية التَّكوين حتّى بات التَّوازن الطَّبيعيُّ اختلالًا مقبولًا أو مسكوتًا عنه. والإشكاليَّة الكبرى تكمن وراء الحدِّ الَّذي سيكبح جماح التَّطرُّف العلميِّ. فما الرّادع؟ وإلى أيِّ مدًى سيصل الإنسان؟ وما تبعيّات هذا التَّسليم والانقياد لمخرجات العقل البشريِّ غير المنضبط؟
تدلّ الإحصاءات الَّتي أوردها الدُّكتور التَّميميُّ في مقاله الموسوم بـ “هل يحقُّ للأستاذ ما يُمنع على التلميذ!؟”، على تسارع اندماج الذَّكاء الاصطناعيِّ في التَّعليم الجامعيِّ، حيث ارتفعت نسبة المدرِّسين المستخدمين له من 22٪ عام 2023 إلى نحو 40٪ عام 2024. هذا التحوّل، وإن بدا تطوُّرًا تقنيًّا واعدًا، يطرح إشكالًا عميقًا حول استمراريَّة الدَّور التَّربويِّ الأصيل، وجدوى الممارسة التَّعليميَّة إن هي تخلّت عن بعدها الإنسانيِّ لحساب المعالجة الخوارزميَّة الباردة.
وفي المقابل، أظهرت دراسةٌ لـ Open AI أنَّ أكثر من ثلث طلَّاب الفئة العمريَّة 18 –24 في الولايات المتَّحدة يستخدمون ChatGPT، 25٪ منهم لأغراض تعلُّميَّة. ويزداد الإشكال تعقيدًا حين تتساوى الأداة ويختلف الموقف الأخلاقيُّ بين المعلِّم والمتعلِّم، وهو ما يثير جدلًا حول العدالة التَّربويَّة: هل يُقبل من الأستاذ ما يُحظر على الطالب؟ وإن لم نواجه هذه المعضلة بوضوحٍ، فسندفع بالعمليَّة التَّعليميَّة إلى دوّامةٍ من التَّناقض القيميِّ والانفصال عن غاياتها الإنسانيَّة الجوهريَّة. تعقيبًا على ما أدرجه الدُّكتور في مقاله، كان لا بدَّ من الإشارة إلى أهمِّيَّة هذا الطَّرح بما يحمله من أبعادٍ تربويَّةٍ وأخلاقيَّةٍ تحتاج إلى إعادة النَّظر في كثيرٍ من المسلَّمات الَّتي تحجَّر عليها العقل والفكر أو حتّى لم يجد فرصةً لمعالجتها معالجةً حذرةً، تأسِّيًا بإرادةٍ جمعيَّةٍ ألفت وتآلفت، ثمَّ اعتادت وتقبَّلت حتّى صار غير المعقول معقولًا، في تمهيدٍ لقيام حضارةٍ عشوائيَّةٍ ناموسها الفضاء الرَّقميُّ والخوارزميّات اللّا متناهية في حربٍ معلوماتيَّةٍ ضروسٍ ضَحيَّتها الإنسان.
انطلاقًا ممّا سلف، يشير الدُّكتور إلى أدوار تطبيقات الذَّكاء الاصطناعيِّ في التَّعليم الجامعيِّ ومدى تأثيرها في طرفي العمليَّة التَّعليميَّة، المعلِّم والطّالب على حدٍّ سواءٍ. وهو ما يدفعنا إلى الوقوف على ما يجب وما لا يجب، وما يجوز وما لا يجوز: فإذا كان المربّي قدوةً، أيجوز له أن يطلق العنان لذاته بما يحاسب عليه تلامذته؟ أمن العدل أن يفرض دون أن يلتزم؟ بالطَّبع لا، فالقدوة التَّربويَّة الفاعلة تجعل من الأخلاقيّات مثلًا عليا مقدَّسةً، قوامها العدل والمساواة والشَّفافيَّة، فإذا أُسقطت القيم تهاوت البشريَّة في عالمٍ مادِّيٍّ بحتٍ، في الدَّرك الأسفل من الحضارة. وذلك ينطبق على كل قدوةٍ أو مسؤولٍ أو راعٍ لرعيَّةٍ يقول ما لا يفعل، وينهى دون أن ينتهي.
وممّا لا شكَّ فيه أنَّ منشأ كلِّ آفةٍ الإسراف والإفراط، الَّذي يتحوَّل بكلِّ الأدوات من ممكِّناتٍ في الأرض إلى مخلخلاتٍ لنواميس الطَّبيعة. فالإفراط في الاتِّكال على تقنيّات الذَّكاء الاصطناعيِّ يحوِّلها من ميسِّراتٍ إلى فاعلاتٍ، تجعل العقل البشريَّ مفعولًا به خاضعًا لسيطرةٍ رقميَّةٍ متقلِّبةٍ لا تحدُّها خلقٌ ولا قيمٌ. وهذا بدوره يولِّد التَّراخي نتيجة التَّرفُّع عن أداء المهمّات، ثمَّ الخمول والكسل. كما أنَّه يحدُّ من القدرات الإبداعيَّة النّابعة من التَّجارب والخبرات البشريَّة، ما يضع الجنس البشريَّ رهن ذكاءٍ صناعيٍّ متنامٍ، ترسيخًا لسلطة المادَّة على الجوهر. وبالتّالي، فإنَّ الإفراط في الاتِّكال على هذه التِّقنيّات الصِّناعيَّة يرفع من نسبة ذكائها المتطوِّر بتدفُّق المعلومات والبيانات، ويهوي بالذَّكاء البشريِّ إلى الحضيض في تبادل أدوارٍ يميت الإنسان بتجفيف منابع الوعي والإدراك لديه. هذا بدوره يفقد الإنسان كثيرًا من القدرات الذِّهنيَّة في معالجة المعلومات، كالتَّحليل والنَّقد والتَّخطيط والرَّبط وإيجاد الحلول واستخدام الخيال الإبداعيِّ وغيرها من المهارات الذِّهنيَّة الفاعلة في معالجة العمليّات المعقَّدة بل والبسيطة منها، نتيجة الاعتماد المستمرِّ على الذَّكاء الاصطناعيِّ في ظلِّ تقاعس الدِّماغ وتراجعه عن تأدية مثل هذه العمليّات وتطوير أساليب التَّعامل معها. والمشكلة في ذلك لا تقف عند هذا الحدِّ، حيث إنَّها تولِّد نمطًا جديدًا من البشر مقتول الحسِّ، محدود الإدراك، ضيِّق الأفق.
والإنسان الرّافض نفسه لهذا الانحدار الفكريِّ، قد يضطرُّ مع الوقت متأثِّرًا بالسُّلوك الجمعيِّ إلى تبنّي هذه التقنيات وتقبُّلها ثمَّ تجربتها حتّى يعتادها ويألفها، ثمَّ تتحوَّل لديه من ظاهرةٍ غير طبيعيَّةٍ إلى ظاهرةٍ مقبولةٍ أو قدرٍ محتومٍ، يجد نفسه خاضعًا له دون أن يدرك. ونتيجة ذلك لا بدع ستكون الانغماس في عالمٍ رقميِّ تحكمه المادَّة. ومن الجدير بالذِّكر أنَّ طغيان هذا النَّمط السُّلوكيِّ غير المنظَّم أو المحكوم بقوانين وسياساتٍ صارمةٍ من حقوق النَّشر والطِّباعة إلى حدود الاستفادة منه سيؤثِّر في الأجيال المتلاحقة المشدودة بقدرته الهائلة في إنجاز مهمّاتهم وواجباتهم، بينما يقضون أوقاتهم في اللَّهو وإضاعة الوقت.
وعليه، فإنَّ المقال لا يمجِّد التَّقليد على حساب التَّجديد ولا هو يدعو إلى الانغلاق على مستجدّات العصر وعلومه وتقنيّاته، إنَّما يدعو إلى عقلنة استهلاك هذه الأدوات بما لا يحدُّ العقل البشريَّ أو يغفل الأخلاق والقيم والخبرات والتَّجارب عن أيِّ إبداعٍ. وفي سبيل ذلك يمكن منح مستخدمي هذه التِّقنيّات توثيقًا رسميًّا بعد الاطِّلاع على أسباب استخدامهم وصفاتهم وأعمارهم، ما يجعل المستخدم تحت الرَّقابة الفعليَّة في استخداماته ضمن ضوابط وشروطٍ. ولا بدَّ من زيادة نسبة التَّثقيف الرَّقميِّ لدى الأهل والمربّين والتَّربويّين بما يمنحهم القدرة على منح أبنائهم وتلامذتهم الإذن بالسَّماح لهم بالوصول إلى مصادر هذه التِّقنيّات.
ختامًا، يمكننا القول بأنَّ غياب الرَّقابة الفعليَّة يمنح الإنسان حريَّة التَّصرُّف العشوائيِّ، والمدفوع بعوامل نفسيَّةٍ لا يمكن كبح جماحها إذا لم يدركها صاحبها. والقول الفصل في ذلك أنَّ الإنسان يمنح الآلة سلطة الحكم والفعل، متمتِّعةً بصلاحيّاتٍ لا محدودةٍ. وقد تخرج عن السَّيطرة يومًا ما، وترفض الانصياع لأيِّ أمرٍ بشريٍّ بما اكتسبته من معلوماتٍ وبياناتٍ متدفِّقةٍ واختزنته، فيفقد بذلك الإنسان السَّيطرة ويغدو صفيحةً معدنيَّةً خاويةً، ومجرَّدةً من القيم والأخلاق والمنطق. وهذا ما يجعلنا نقف أمام مصير الحضارة البشريَّة وقوف القلق من تآكلها وتهالكها تحت مفعول “الهوس الصِّناعيِّ” في مختلف الميادين والحقول.