عقل العويط
النصّ أدناه، هو “مكالمةٌ” مع منحوتةٍ لنعيم ضومط (من مواليد 1941- )، الذي من حقّ تجربته الفنّيّة المديدة أنْ تكون موضعَ تكريمٍ، أقلّه من خلال كتابٍ فنّيٍّ وبحثيٍّ لائقٍ يوضع عنه، ومعرضٍ استعاديٍّ شامل لمراحله المختلفة الطليعيّة والخلّاقة والمتواصلة نحتًا ورسمًا منذ نحوٍ من اثنين وستّين عامًا. هذا واجب الحركة التشكيليّة اللبنانيّة، المتاحف ودور العرض، الأدب، النقد، والثقافة مطلقًا
أأنتِ منحوتةٌ أم امرأةٌ؟
يتناهى إليَّ أنّكِ تختارين أنْ تكوني مَن تكونين، ماذا تكونين
وها أنتِ تولدين من شجرةِ القبقاب، وتمتشقين كيانَكِ، متبرّجةً بإزميلِ خيراتكِ ومواهبكِ، لتطلّي على عريكِ البهيِّ الطريِّ الخفِرِ الذكيّ، ولتحضري – كغاية، كملتجأ – في قوامكِ العاري، في اختصاراتكِ المكتفيةِ بالإيماء، في صفائكِ اللّامتناهي، في هذيانكِ النبيل، في صمتكِ الممتلئ، في لغتكِ العارفةِ باللغات، في ليلِ جسدكِ المُضاءِ بذاتِه والمُضيء، في شمسكِ المغموسةِ – بل المضرّجةِ – بمياهِ مكنوناتِ الظلّ، في ظلّكِ المستسلمِ لرغباتِ الإعصارِ والنسيم، في شهواتِكِ العرفانيّةِ الممتنّة، في نشواتِكِ الكريمة، في هواجسِ عقلكِ الباطن، في نزهاتِكِ المجهولة، في أطايبِكِ المقطّرةِ تحتَ أنهارِ الينابيعِ المضمَرة، في خفاياكِ المتبسّمة، في وشوشاتِكِ المُريبة، في لامبالاتِكِ، في لاانتباهاتِكِ، في شاهقِ نزولكِ إلى المهبل، في فرْجِكِ المُهلِك، في فضيحتِكِ الكونيّة، حيث هناك تكتملين في شهقةِ الضوء، كامرأةٍ منحوتةٍ، أو – لستُ أدري – كمنحوتةٍ امرأة
وأنتِ أيّتها الآنسةُ، يا شجرةَ القبقابِ المنحوتة، ويا الساحرة والمسحورة، لا تحضرين في الخفيةِ ولا تسلّلًا ولا في الغفلةِ ولا أيضًا على متنِ الضوضاء، بل أمامَ الملأ، إلى مائدةِ الانتباهاتِ الكلّيّة، إلى مائدةِ الفضاءاتِ المتخلّيةِ عن كلِّ ثرثرةٍ وإضافةٍ ونشاذ، لتكوني الضيفةَ القصوى، الأميرةَ، الكونتيسةَ، في مأدبةِ الكَرَمِ الجسديّ المطلق، مأدبةِ التبسيطِ والاختصارِ والكثافة
ويا لكِ تنبثقين، أيّتها المرأةُ الكاهنة، كما ينبثقُ شهابٌ طالعٌ من عدم، كجنحةٍ موسيقيّةٍ عارمة، كمثلِ راهبةٍ وثنيّةٍ، كمثلِ قدّاسٍ مغسولٍ باللطفِ، بالضبابِ، بنزوةِ الضبابِ المعتّقِ بالخمر، كغيابٍ لا يكفُّ عن الحضور، كحجمٍ يعتني بإيقاعاتِهِ المهيبة، كهندسةٍ ترتجي أنْ تحملَ في أحشائِها ميزانَ الوله، لتكيلَ به معاييرَ الشبقِ بالقيراطِ، بالرهافةِ، بالدقّةِ اللّامتناهيّة، منساقةً في الحمحمةِ، في الهديلِ، في الانسيابِ، على بساطِ الهسيسِ المسموعِ بالإيحاءِ وعقلِ الوحي، وهو بساطُ الخفّةِ الفلسفيّةِ المحمولةِ بالأنفاسِ، بالعطورِ، بالتأوّهاتِ، على هندساتِ ملائكةِ التخييلِ الحيي
ويا لقدمَيكِ! يا لقدمَيكِ الواقفتَين على رؤوسِ الأصابع (يطيب لي أنْ أرى ذلك، وهذا ممّا لا يُرى)، كأنّما تنصتان إلى خبرةِ الينابيعِ في النزف، كأنّما تنصتان إلى “وصايا” أمِّنا الأرض، بقصدِ أنْ تحملا همَّ الكينونة، وهاجسَ الارتقاء، تعبيرًا عن توقِ الشرطِ البشريّ إلى الرقصةِ القصوى، إلى الرهزِ، إلى الدوارِ، إلى التحليقِ، إلى الانخطافِ، فإلى الاندراجِ في متعةِ الحفيفَين، وفي تلوّي اللهفتَين
ما أطيبَهما. وما أحيلى
ويا لَساقَيكِ! يا لَساقَيكِ المتصاعدتَين كحريقٍ فردوسيّ، إلى حيث تلتقي الساقُ بالساق، لتصيرا الرغوةَ المنسكبةَ في الإناءِ المُذهلِ والمنذهل، حيث الجرنُ، جرنُ الجنسِ، جرنُ المعموديّةِ الجسدانيّة، جرنُ الحلمِ الانتشائيِّ اللّاواعي، والانبثاقاتِ المتوالدةِ من الرحيقِ، من النسغِ، من الجوهر
أهناك، يا ترى، يلذّ للجمرِ أنْ يتوهّجَ كموقدةٍ في الزمهريرِ الغاشم، حيث في ذلك الموضع تتحقّقُ القيامة؟
وأيّ قيامة
أهو قوامُكِ، يا امرأة، هذا الذي يرتفعُ من منتهى الحوض، وما يليه من أحشاءٍ هي ملجأُ الثمرةِ النامية، حيث يطيب للمثنّى، وهو مثنّى الساقَين، أنْ ينضمَّ بعضُهُ على بعضِهِ، أنْ يلتئمَ، أنْ يختفي، أنْ يتخفّى، فتتماهى الساقان الإثنتان، وتتآخيان، لتتوحّدا، من أجل أنْ تنضويا في القامةِ المستدقّةِ الرهيفة، التي بالكاد تُرى كاختصارِ الاختصار، بإيجازِ البلاغةِ المتحرّرةِ من البلاغةِ، من الوصفِ، ومن الإنشاءِ الفضفاض
هل من مكانٍ للندى في هذا الانهمام؟ هل من مكانٍ للاسترخاءِ، للاستراحةِ، للتهرّبِ ممّا يَنتظر، ويُنتظَر؟
لا أخشى أنْ أستطيبَ التأويل، بل أمعنُ بعينيَّ هاتين، بإغماضتَيهما الرائيتَين، حيث الربوَتان، حيث ارتعاشةُ الثديين، وحيث لا يقينَ إلّا باليدَين، بالشفتَين، تنظران، أكرّر: تنظران، تلمسان، تتنشّقان، تستسيغان، تتلمّظان، وتستدرّان الحليبَ الأنثويَّ، تستدرّان ماءَه خاليًا من كلّ غشٍّ وعكرةٍ وثقل
أليس هناك، حيث أيضًا هناك، يسكرُ الإزميلُ، يُجَنُّ، يتغاوى، يرهفُ، يتمهّلُ، يتأنّى، يتوقّفُ، يستوقفُ، يرنو، ولا ينامُ، ولا يغفو، بل يشتغلُ، ويحلمُ واعيًا، ويعي حالمًا، أنّ الشهوةَ، أنّ الرغبةَ، أنّ الرغوةَ، وأنّ الحلمَ والغفرانَ والرأفةَ والرحمةَ وأثيرَ الرحمن وتفّاحتَيه، هم هناك؟
وإذا قيلَ هناكَ هي المرآةُ المجلوّةُ، هناكَ هي صفحةُ أعلى الصدرِ، فذلك معناهُ هو السجنجلُ في العربيّةِ، وقد استُلّتْ كلمتُها من اليونانيّة. ويُرى أعلى الصدرِ هذا (هل يُرى بالعينَين باليدَين بالشفتَين بالرغبتَين بالشهوتَين؟!) بريئًا من كلِّ عيبٍ، صافيًا، ليّنًا، منبسطًا، مرحِّبًا، مصقولًا، مسبوكًا سبكَ الذهب، خالصًا، مبصرًا، وداعيًا إلى الإبصارِ. وأيّ إبصار
وإذا كان يعنيني الوجهُ، فلأنّه الوجهُ، وهو وجهُ الجسمِ، وجهُ الظاهرِ، وجهُ الباطنِ، وجهُ المرئيِّ اللّامرئيّ، وجهُ القلبِ، وجهُ الروحِ، وجهُ المبلَّغِ عنه، وجهُ اليقينِ، وجهُ المحتمَلِ، وجهُ ما لا وجهَ له، وجهُ المفتكَرِ فيه، وجهُ المحلومِ، وجهُ المظنونِ، وجهُ المكتومِ، وهو بدايةُ الرحلةِ إلى اللذّةِ الدفينةِ، إلى الفلسفةِ، إلى الشعرِ، إلى التأويلِ، حيث كلُّ معنى، وحيث كلُّ ما يمتثلُ وراءَ المعنى، ولا يصلُ إليه معنى
ويعنيني أنْ ألتفتَ إلى الجانبِ (البروفيل) من هنا، إلى الجانبِ من هناك، فأعي وعيَ الحجمِ الذي يتهندسُ من دون افتعالٍ أو اصطناع، ولا أرتبكُ، بل أصغي إلى ما يتناهى من الإزميلِ الغائبِ، ومن الحفيفِ الذي يستطيبُ الترهيفَ والتنعيمَ والتليين، وهذا ممّا لا يُصغَى إليه بالأذن، بل بالتبسيطِ المكثّفِ للموسيقى المسموعةِ بلا صوت
وإذا كنتُ معنيًّا بالجزء، فلأنّي معنيٌّ بالكلّ
- انقطاع التواصل بين الأجيال/ وتحولات الشعرية العربية في الألفية الجديدة”
- إنسـان فيتـروفيـوس- للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
أرأيتَ، أيّها الرائي بالعينِ والعقل، أرأيتَ أيَّ حالٍ تُرى، إذا وقفتَ وراءَ المنحوتةِ لترى ظَهرها؟
وأسمّي الظَّهرَ، لينوبَ عن كلِّ شيٍ يُرى من وراء. لينوبَ عن الجسمِ كلِّهِ، عن الفضاءِ، عن الحجمِ، عن القامةِ، عن القوامِ، عن الإليتَين (ما أحيلاهما)، وما بينهما. فهل هممتَ، أيّها الرائي، بتركِ أذنيكَ، يديكَ، عينيكَ، شفتيكَ، وشميمَ عطرَيكَ، تحتفلُ بالخليقةِ من وراء، وتنضمُّ إليها انضمامَ الفردوسِ إلى الجحيمِ، والجحيمِ إلى الفردوس؟
والناحتُ والمنحوتُ، والعاشقُ والمعشوقُ، أتُدرَكُ هواجسُهُما آنذاك؟
يا لَتقصيرِ العقلِ، يا لارتباكِ الإدراكِ، إدراكِ “مسؤوليّةِ” النحتِ، مغامرتِهِ، عندما ينحتُ الضوءَ، عندما ينحتُ هندستَه، قوامَه، حجمَه، شكلَه، شهوتَه، رغبتَه، شبقَه، نشوتَه، شمسَه، ظلَّه، قمرَه، وتأويلَ الروح
akl.awit@annahar.com.lb
كلام الصورة
منحوتة لنعيم ضومط، في حالاتها الأربع، خشب شجر القبقاب، 85 سم ارتفاعًا
تعليقات 1