حين نسمع كلمة “مثقف”، كثيراً ما تتشكل في أذهاننا صورة شخص يقرأ باستمرار، أو يكتب بلغة معقدة في قضايا الفكر والسياسة، أو يتحدث من خلف منبر ثقافي بعبارات محمّلة بالنظرية والوعي. هذه الصورة تفقد الكمال، فمن وجهة نظر أنثروبولوجية، لا يمكن حصر “المثقف” في هذا القالب النخبوي، لأن الثقافة نفسها أوسع وأعمق من أن تختصر في القراءة أو الكتابة أو النقاش الأكاديمي. فالمثقف، في جوهره، ليس من يقرأ فحسب، بل من يعيش الوعي داخل ثقافته، ويعيد إنتاج المعنى من خلال ممارساته اليومية وتفاعله مع العالم.
ولتفسير ما المثقف نحتاج ان نفهم اولا ما هي الثقافة
يقول كليفورد غيرتز، أحد أبرز علماء الأنثروبولوجيا الثقافية في القرن العشرين، إن الثقافة هي “نسيج من المعاني التي ينسجها الإنسان بنفسه ثم يعيش داخلها”. بمعنى آخر، الإنسان لا يعيش في عالم مادي فقط، بل في عالم رمزي، في شبكة من القيم والعادات والمعتقدات التي تمنح حياته معنى. فحين يزرع الفلاح أرضه، لا يفعل ذلك من أجل الغذاء وحده، بل يعبّر عن علاقة روحية مع الأرض، وعن احترام لدورة الحياة بين الإنسان والطبيعة. وحين تصنع الأم خبزها بيديها، فهي لا تؤدي مجرد عمل منزلي، بل تمارس طقساً من طقوس الحياة والدفء والاستمرارية، وحتى الجد حين يروي حكاية قبل النوم، فهو لا يسلي أحفاده فقط، بل ينقل إليهم هوية جماعية وذاكرة جمعية تمتد عبر الأجيال.
الثقافة ليست ما نعرفه، بل ما نحياه. ليست مجرد تراكم معرفي، بل طريقة في النظر إلى العالم والتعامل معه. كما تقول مارغريت ميد، الثقافة هي ما يجعل الإنسان إنساناً، لأنها تشكّل سلوكه، وتحدد كيف يحب، وكيف يغضب، وكيف يعبّر عن ذاته. كل إنسان يولد داخل نسيج جاهز من الرموز والعادات، يتعلم كيف يجلس، كيف يتحدث، كيف يُظهر مشاعره. لكنه في الوقت نفسه، يعيد خلق هذه الرموز بطريقته الخاصة. فالثقافة ليست شيئاً جامداً، بل عملية حية، يشارك فيها الأفراد باستمرار من خلال إعادة تفسير العالم من حولهم.
ومن هنا، يمكن القول إن كل إنسان مثقف بثقافته الخاصة فالعامل الذي يعرف أسرار مهنته ويعلّمها للآخرين هو مثقف بثقافة العمل. المرأة الريفية التي تدير بيتها بحكمة وتربي أبناءها وفق منظومة قيمية متوارثة هي مثقفة بثقافة الحياة الاجتماعية. الراوي الشعبي الذي يحفظ التاريخ الشفهي ويعيد سرده بذاكرة جمعية هو مثقف بثقافة الذاكرة. الشاعر المحلي الذي يعبر عن مشاعر الناس بلغتهم البسيطة هو مثقف بثقافة التعبير. هؤلاء جميعاً مثقفون، حتى وإن لم يقرأوا كتاباً واحداً، لأن الثقافة لا تُختزل في النصوص، بل في الممارسة، في القدرة على تحويل التجربة إلى معنى.
أما الشخص الذي يقرأ كثيراً دون أن يعيش وعيًا اجتماعياً أو إنسانياً لما حوله، فقد يكون مفكراً أو باحثاً، لكنه ليس بالضرورة مثقفاً. لأن المثقف ليس من يعيش في الكتب، بل من يفك رموز الحياة. فكما يرى غيرتز، دور الباحث الأنثروبولوجي ليس في اكتشاف الحقيقة الموضوعية، بل في تفسير المعاني كما يعيشها الناس بأنفسهم. وبالطريقة نفسها، المثقف الحقيقي ليس من يتحدث عن المجتمع من خارجه، بل من يعيش داخله ويفهم رموزه من خلال تجربته اليومية.
فالتحية مثلاً ليست مجرد عادة اجتماعية، بل رمز عميق يعبر عن الاحترام أو القرب أو الانتماء. والزي التقليدي ليس مجرد لباس، بل هوية تُعلن الذات أمام الآخرين. والطقوس الدينية ليست مجرد التزام ديني، بل لغة رمزية تعيد تشكيل الرابط بين الفرد والمجتمع فحين نمارس هذه الرموز بوعي، نحن نعيش الثقافة لا كمفهوم، بل كحياة.
في بعض المجتمعات، جرى اختزال “المثقف” في صورة المفكر النخبوي الذي يتحدث من على المنابر بلغة معقدة، وغالباً ما يعيش معزولاً عن الناس الذين يتحدث باسمهم. لكن من منظور أنثروبولوجي، هناك نوعان من المثقفين: المثقف النخبوي الذي يحلل المجتمع من الخارج وكثيراً ما يخفق بسبب قلة اندماجه وانخراطه الاجتماعي. اما المثقف الشعبي هو الذي يعيش الثقافة من الداخل. كلاهما ضروري، ولكن المشكلة تبدأ حين نُقصي المثقف الشعبي، ونختزل الثقافة في الكتب والجامعات والمنصات. حين يحدث ذلك، تفقد الثقافة معناها الحي، وتتحول إلى سلعة فكرية بدل أن تبقى تجربة إنسانية مشتركة.
إدوارد تايلور، أحد مؤسسي الأنثروبولوجيا الثقافية، عرف الثقافة بأنها “ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والعادات، وكل ما يكتسبه الإنسان كعضو في المجتمع”. هذا التعريف يعيدنا إلى الفكرة الجوهرية: لا أحد خارج الثقافة، الجميع يعيش داخلها، ويعيد تشكيلها. الراعي الذي يعرف أسرار الطقس والسماء يحمل معرفة كونية بلغة رمزية بسيطة. الأم التي تروي لطفلها قصة عن الخير والشر تمارس تعليماً ثقافياً عميقاً. الشاب الذي يختار موسيقى تعبّر عن ذاته يخلق رمزه الخاص في عالم سريع التغير.
وعندما نفهم أن الثقافة ليست امتيازاً نخبوياً، بل ممارسة بشرية مشتركة، نصبح أكثر تواضعاً في أحكامنا، وأكثر وعياً بأن الوعي لا يُقاس بالشهادات، بل بالقدرة على رؤية المعنى في التفاصيل اليومية. فالمثقف، في النهاية، ليس من يقرأ الكتب، بل من يقرأ الحياة. من يرى في الأشياء العادية رموزاً غير عادية، ويفهم أن وراء كل عادة أو قول أو حركة تاريخاً من التجارب الإنسانية المتراكمة.
كثيراً ما يُساء فهم العلاقة بين الثقافة والوعي، إذ يربط الناس مظاهر السلوك الخارجي بمستوى الفكر أو الإدراك، وكأن طريقة الأكل، أو اللباس، أو حتى طريقة الجلوس، تعكس مستوى الوعي أو النخبوية. لكن من منظور أنثروبولوجي، هذه المظاهر لا تدل على الوعي بقدر ما تدل على اختلاف أنماط الثقافة. فالثقافة تحدد الإطار الذي يتصرف من خلاله الإنسان، بينما الوعي هو إدراك هذا الإطار نفسه.
فعلى سبيل المثال، كثيراً ما يُنظر إلى من يأكل بالملعقة والسكين على أنه “مثقف” أو “راقي”، بينما من يأكل بيده يُنظر إليه كإنسان بسيط أو غير متحضر. هذا الحكم ليس سوى إسقاط ثقافي، لأن طريقة الأكل ليست مقياساً للوعي، بل انعكاس لثقافة مختلفة. فالأكل باليد في مجتمعات معينة ليس دليلاً على الجهل، بل على القرب من الطبيعة والطعام، وعلى قيم المشاركة والدفء الاجتماعي، كما في المجتمعات العربية والهندية والإفريقية. بينما استخدام أدوات الطعام في الغرب يعكس ثقافة التنظيم والفردية، لا بالضرورة عمقاً فكرياً أو وعياً أعلى. وبالمثل، ليس من الصحيح أن نربط طريقة اللباس بمستوى الفكر. فالفيلسوف أو المفكر قد يرتدي ثوباً بسيطاً أو لباساً تقليدياً، بينما قد يرتدي شخص آخر بذلة أنيقة دون أن يملك وعياً أو فهماً أعمق للعالم. كما أن الجلوس على الأرض في بعض الثقافات ليس نقصاً في التحضر، بل رمز للتواضع والاتصال بالأرض.
بهذا المعنى، لا يمكن قياس الوعي بمعايير الشكل أو المظهر، لأن الثقافة تُعبّر عن التنوع الإنساني في أساليب العيش، لا عن التفاضل بين الناس. فقد يكون الإنسان فيلسوفاً في فكره، لكنه يأكل بطريقة بسيطة لا تشبه الأسلوب الغربي، وقد يكون شخص غربي متعلماً يستخدم أدوات الطعام، لكنه يعيش داخل ثقافة لا تمنحه عمقاً في الوعي الذاتي أو الاجتماعي.
الوعي إذن ليس في “كيف” نأكل، أو “كيف” نلبس، أو “كيف” نجلس، بل في إدراكنا لماذا نفعل ما نفعل. ومن هنا تظهر الثقافة في فهمنا للمعنى الذي تحمله تلك الممارسات داخل شبكة اجتماعية ثقافية.
بهذا فان كل إنسان مثقف بثقافته الخاصة، لأن الثقافة ليست ما نحفظه، بل ما نحياه. والمثقف الحقيقي هو من يعي هذا المعنى ويعيد ترجمته في حياته اليومية. وحين نعيد للمثقف المعنى الإنساني، نعيد للثقافة روحها الأصلية: روح المشاركة، والتعبير، والذاكرة، والوعي بالوجود…

الاستاذ فراس عمر