والعقل يا ربِّي،
أيُّ عجيبةٍ هو!
أيُّ عطيَّةٍ هو!!
أيُّ بليَّةٍ هو !!!
جوَّاب آفاقٍ هو العقل،
لا يستقرُّ لحظةً واحدةً في مكانٍ واحد،
ولا يسير في اتجاهٍ واحد،
فكأنَّه البرق في السَّحاب.
أمَّا مطاياه في تجواله
فالعين والأُذن،
والأنف واللسان،
واليدان والرِّجلان.
وهو حريصٌ أن يجمع كلُّ ما تبصره العين،
وكلُّ ما تسمعه الأُذن،
وكلُّ ما يشُّمه الأنف،
وكلُّ ما يتذوَّقه اللسان،
وكلُّ ما تتلمَّسه اليدان والرِّجلان،
وأن يخزنه في ذلك الكشكول العجيب
الذي تحتويه جمجمتي.
وهو يخزنه هناك
دون أن يختلط حابله بنابله،
ودون أن يزحم بعضه بعضًا،
أو أن يمحو بعضه بعضًا.
بل إنَّ العقل – وههنا العجب العجاب –
يستطيع أن يُخرج من ذلك الكشكول ما يشاء
ساعة يشاء،
دون أن ينقص ما في الكشكول أو يزيد،
ودون أن يطرأ أيُّ تعديل في ترتيبه
بالنِّسبة إلى ما حواليه.
والعقل لا ينفكُّ يتلهَّى بمحتويات كشكوله
تمامًا كما يتلهَّى الطِّفل بالدُّمى.
مع الفارق أنَّ الطِّفل
ينصرف من حين إلى حين عن دُماه،
أمَّا العقل فلا ينصرف لمحةً واحدةً عن كشكوله،
لا في النَّهار، ولا في الليل.
وهو إن لم يكن لديه من جديد يضيفه إلى قديمه
راح يقلِّب القديم على ألف وجهٍ ووجه،
فكأنَّه البقرة تجترُّ ما في معدتها
دون أن يتعب فكَّاها.
ولولا ذلك لما كان للعقل
أن يصل دقيقة بالتي قبلها وبعدها،
وأمسه بيومه،
ويومه بغده.
ولما كان له أن يتصرَّف بشؤون الجسد
على ما في تصرُّفه أحيانًا كثيرة
من جهل ورعونة وهوىً طائش.
وتمامًا كما ينشغف الطِّفل بدمية متحرِّكة
فيمضي يتفحَّصها ليعرف السِّر في حركتها
ينشغف العقل بما حواليه من أشياء
جامدة ومتحرِّكة
فيمضي يعالجها ليعرف سرَّ تركيبها
وسرَّ الحركة فيها.
وأنا ما نسيت، ولن أنسى، دقائق في البرِّية
تسمَّر فيها بصري على بقعة من التُّراب النَّاعم
لا تزيد على البوصة الواحدة
لقد كان التُّراب يتحرَّك
حركةً لا تكاد تبصرها العين.
فشاقني أن أعرف المحرِّك.
وأجهدت بصري في التَّفتيش عنه،
ولكن دون جدوى.
ومرَّت دقائق طوال
والحركة بطيئة في التُّراب النَّاعم لم تنقطع.
وعيل بصري، أو كاد،
عندما أبصرت في النِّهاية دويبَّةٌ حمراء،
حجمها حجم رأس الدَّبوس،
تدفع التُّراب بأرجلٍ لا تراها عيني.
فراح عقلي يتساءل بمنتهى الدَّهشة:
أين في هذه الدُّويبَّة جهاز البصر،
وجهاز السَّمع،
وجهاز التَّنفُّس،
وجهاز الحركة،
وجهاز الهضم،
وجهاز التَّناسل؟
وكيف تهتدي إلى رزقها،
وإلى أبناء وبنات جنسها؟
وهل هي تعيش عامًا، أم أعوامًا،
أم بعض العام، أم بعض الشَّهر؟
ولماذا هي الآن هنا
في هذا الحيِّز الضَّيِّق جدًّا
من رقعة الأرض الواسعة؟
وما غاية الأرض وأبناء الأرض منها؟
وما غايتها من الأرض وأبناء الأرض؟
بل ما غاية المسكونة منها؟
وغايتها من المسكونة؟
ولكنَّ العقل يرتدُّ عاجزًا، حائرًا،
ويلوذ بالصَّمت الرَّهيب.