“تهنئة”
كان يُنظر إلى الشاعر قديماً على أنّه مسكون من الجنّ أو جنّيات الشعر فحتى اليوم يقال عن المجنون: “مسكون”
من حجج الجاهليين في دحض الرسالة المحمدية وصفهم له أنّه “شاعر مجنون”
الشاعر مهمّته اقتناص الخيال، فيهيم في عالمه الرحب مؤجّجاً مشاعرنا بحالته النفسية، ولا يحقّ لنا أن نستفسر عمّا يقول فهي لحظة ولادة مجهول من مجهول
“وأمضي في جنوني” ليس عنواناً تقليديّاً يشرح نفسه بنفسه بل هو جملة شعريّة تتألّف من عناصر عدّة سنأتي على ذكرها
ممدوح عنوان كتب ” دفاعاً عن الجنون حيث لا مكان للعقلاء والمتّسخين”
نزار قباني قال
احتضنّي، ولا تناقشْ جنوني ذروةُ العقلِ يا حبيبي الجنونُ
هنا الجنون الإبداعي الذي يتجاوز عالم العقل بجفافه ورصانته وتزمّته لا يقف عند الإشارات الحمراء، فالشعر عصيّ على من يدّعي الحكمة، من هنا أفلاطون طرد الشعراء من مدينته الفاضلة، ومن يدري فربما هرب الشعراء من هذه المدينة قبل طردهم منها لو صبر أفلاطون قليلاً عليهم، لأنّ الشعر يؤمن بفضيلة التمرّد على الفضائل التي تقيّد القلب، وتراه عصياناً مسلّحاً ضدّها
ماذا نرى في هذا العنوان “وأمضي في جنوني”؟
الفعل والاسم والحرف
الفعل المضارع “أمضي” الدال على التجدّد والانطلاق وعدم التوقّف عند زمن معيّن، فزمانه مفتوح على اللانهايات
والاسم “جنوني” لم يجئ نكرة مجرّدة بل أضيف إلى ضمير المتكلم الياء الدالّ على الشاعرة، فهذا الجنون خاصّ بها، ولا أحد يشاركها فيه
أما حرف الواو فهو حسب ما قبلها أي ابتداء واستئناف، ووروده هنا ذو إيحاء بلاغي دالّ على أنّ الشاعرة لم تبدأ الجنون حديثاً بل هناك مضيّ تلو مضيّ وصولاً إلى المضيّ الأخير في الديوان الذي قد يدلّ أيضاً على الاستمرار، لأنّ المضارع يجدّد الحالة، ويتوجّه نحو المستقبل
وأمضي :ياء الفعل الدال الامتداد الزماني والمكاني
في : ياء الحرف
جنوني ياء الاسم. هنا الياء ضمير المتكلّم الدال على التملّك والامتداد، فهذا الجنون ملك لها وحدها، ولا أحد يشاركها فيه، فلو قالت في “الجنون” لكان عامّاً لها ولغيرها
هذا الياء ذو دلالة نفسيّة، فالحرف قبلها مكسور مطلق غير مقيّد يناسب انطلاق الشاعرة في رحلتها مع الجنون
بقي أن نقول: إنّ العنوان امتلك نعمتي الموسيقا الخارجية والداخلية، فالخارجية جاءت موزونة على إيقاع البحر الوافر. وأمضي في جنوني : مفاعلتنْ فعولنْ
والداخلية في تكرار الياء المكسور ما قبلها، هذه الكسرة الدالّة على جيَشان العاطفة وغليانها وتوهّج الخيال، من هنا ربما جاءت خمس معلّقات من الشعر الجاهلي على رويّ الحرف المكسورِ الذي يليه الياء
قرأت الديوان ورأيت أنّ العنوان رسوله الأمين الذي نقل إلينا رؤى الشاعرة إخلاص وخلجاتها في قصائد تخلخل العقل، وتجعله في مهبّ الجنون