د. علي حجازي
ثقيلاً مضى عليّ هذا الليل الذي لم أذق فيه طعم النوم وسط هذه العتمة الشديدة المتطاولة المدة والمدى ، ومردّ ذلك الأرق تلك الأصوات العديدة التي امتزجت فيها صرخات العجائز فاقدي الدواء ببكاء الأطفال الذين لا حليب لهم في الأثداء والصيدليّات ، مع تأوّهات صغار ناموا على بطون غرثى خاوية ، ونحيب أمّهات فاقدات مَن قضوا في الأزقة ، وأمام أبواب الأفران والمحطّات ، وفي الشوارع والطرقات على أفضليّة المرور
هذه الحال آلمتني كثيراًً انا الذي فتّشت المعلف كثيراً عن تبن ، ولم أعثر على قشّة واحدة منه ، فأخذت أترحَّم على تلك الأيام الخوالي التي كان التبن فيها يملأ المكان ممزوجاً بشتى أنواع القطاني. أيُّ زمن هذا الذي بتّ فيه أحلم بالماء الذي أمست زيارته إلى ربوعنا نادرةً
الآن هبطت عليّ فكرة ، نعم فكّرت، مع أنّ البشر يظنون أنّ الحمير لا تفكّر ولا تحسّ ولا تتألّم . مردّ الفكرة النازلة إليّ من السماء أن أرفس أرض الاصطبل الذي فرغ من الثور والبقرة والحمارة بعدما باعها صاحبي ليستعين بثمنها على ما هو فيه من شحِّ وصل إليه ، وأن أثيرَ ضجةً ، وأنهق نهيقاً قويّاً لعلّ الأصوات المزعجة تكون بشارة أمل توقظ النيام الحالمين بتغيير ما هم فيه من ذلّ وهوان
نعم ، أنا الحمار الذي لم يجد ماءً ولا علفاً ، وباعدوا بينه وبين أنثاه ، وساءه سماع النحيب والبكاء ، أن أشدَّ الحبلَ الذي يربطني بالوتد فأقطعه ، وأصرخ صراخاً قويّاً لعلّ صوتي يخترق الإصطبل ، ويصل الآفاق احتجاجاً ، وشرعت أردّد :
– ما عند الله أدسم ، فالبريَّة طافحة بالعشب ومياه النهر أنقى
سمع صاحبي النهيق المزعج فأسرع يعدو صوب الاصطبل ، ولكم كانت مفاجأته كبيرة عندما أبصرني في فناء الدار أضرب بحوافري الأرض فقال بصوت مسموع
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ما أنكر صوتك !
هزّزت رأسي رفضاً وقلت
– إذا كانت أصواتنا تؤذي الأسماع فأصوات البشر تؤذي الأرواح ، ومؤامراتهم وأحقادهم وعنصريتهم وكراهيتهم ونميمتهم تقتل الأجساد والأرواح معاً ، وأصوات رصاصهم ، ودوي قذائف مدافعهم تبيد الحجر ، وتحرق الشجر والبشر أليس كذلك ؟
نعم ، لقد ساءك سماع صوتي الذي قطّعته عبراتي حزناً على مصائبك التي لا تعدّ ولا تحصى ، ولم تكسر روحك أصوات محبيّك وكلّ يبكي من ألم المّ به ؟
انا الحمار البليد ، بحسب تعريفك، لم أنم الليلة ، لقد بكيت كثيراً ، وذرفتُ دموعاً غزيرة وأنا أسمع بكاء طفلك ، ونواح جارتنا ، وصراخ امّك المتواصل الذي لا ينفكّ ، عبثاً ، يطلب الدواء ، وأولادك الذين كنت أسمع عزف أمعائهم الخاوية
أكلّ هذا لا يزعجك ، الوحيد الذي لا تقبل سماعه هو صوتي ؟
ثَبَتَ صاحبي مكانه مذهولاً بما سمعه من حمار ، فحرّك شفتيه وسأل:
– هل من أسباب أخرى دعتك إلى رفع صوتك الآن أجبني ؟
– ألا تدري لمَ رفعته الآن ، وقد بعت الثور والبقرة والحمارة اللاتي كانت تخدمك بثمن بخس ، وتركت معلفي فارغاً ؟
-وهل من أمور أخرى تحتجّ لأجلها ؟
– نعم أنا الحمار أرفض أفعالك المهينة ، انا الآن أصرخ . أمّا أنت فكثيراً ما رأيتك صامتاً خوفاً وجزعاً ممن يملكون صوتاً أعلى، ومقاماً أرفع ، ولو كانت دعواتهم باطلة . وأفعالهم مستنكرة
انا خلقني الله حماراً ، وإنني راضٍ بذلك، حامداً الله على نعمه كلّها . أمّا البشر الذين خلقهم الله على أحسن تقويم فحميراً يصبحون عندما يركبهم من بيده الحلّ والربط . أليس كذلك يا صاحبي الحبيب ؟
– من تقصد بأولياء الحلّ والربط قل ؟
– اتظنّني حماراً لا يفهم عندما تصحبني إلى دارة المسؤول الذي تقف بين يديه ذليلاً ، مطأطيء الرأس، ورقبتك تكاد تلامس بطنك ، وصوتك الذي ترفعه ملعلعاً كالرصاص على زوجك وأولادك وجيرانك المساكين هنا ، أكاد لا أسمعه لشدّة خفوته.د هناك
البارحة سمعت جارك الأستاذ وهو يقول لك :
“حمار من يسفح ماء وجهه ليحصِّل ما هو دون من ماء الوجه”
عَتَبي على هذا الأستاذ كبير ، لأنّه وصفك وأمثالك بالحمير الذين يسفحون ماء وجوههم
بربّك اخبرني: هل رأيت حماراً يسفحُ ماء وجهه وأين؟ أنت تعلم أنّه ليس دون ثمن العلف ثمن ، وإن لم نجده فبريّة الله ، واسعة ورزقه كثير
أمّا انت وأمثالك فأنتم من تحنون رقابكم ، وتُريقون ماءَ وجوهكم
نحن معشر الحمير نرفع أصواتنا في الأماكن كلّها بإيقاع واحد ، على عكس ما تفعل أنت حيث تخفض صوتك هناك وتعليه هناك ؟
لمَ هذه الازدواجية في المواقف ، أهو النقص الذي تشعر بضرورة تجاوزه وتعويضه أم ماذا ؟
أراك صامتاً لا تجيب
بل أنا أجيبك عن سؤالك الذي قذفته في وجهي لدى رؤيتك إيايّ أجرُّ حبلاً قطعته فاصلاً بين رقبتي والوتد ، بل محرِّراً إيّاها من سلطتك الغاشمة المتحكّمة بالقوت والماء ، والصحبة الحميمة مع الحمارة والثور والبقرة
هل تجرؤ على الفصل بين رقبتك ووتد مَنْ بيده قوتك وغذاؤك، قل ؟
– إنّ من بيده قوت عيالي يشدّني إليه بحبال عديدة . فأنا أخاف على أولادي وعلى حيواناتي وأرزاقي
هذه كلّها معرّضة للأذى إن لم أخفض هذه الرقبة ، وأحني هذا الرأس . ماذا أفعل
– الحيوانات التي تخاف عليها بعتها ، وأمّك وأطفالك في خطر ما بعده خطر. قل لي ماذا تنتظر بعد ؟
هل أدلّك على أمر ينجيك من هذه المهانات ، ويخلّصك من هذه المعاناة ؟
– تفضّل ، أسمعك
– لم يبقَ لديك سواي ، بعني وأرحني من هذا العذاب ، واشترِ بثمني “سيفاً اقطع به حبلك ،ثمّ احمله واخرج على الناس” ، عندها تجد فضاء الله الواسع ، وتحقّق الغذاء والدواء ، وتحظى بالحريّة والشمس والهواء النقيّ والماء النمير
هيّا ، نفّذ ولا تتردّد ، فلم يبق عندك شيء تخسره ، وما أجمل السيف في يدك وما أحلاه
خذ قراراً واحداً صائباً في عمرك الذي شارف على الرحيل
خذ ، خذ خذ قراراً واحداً واحداً واحداً فقط
قبريخا – جبل عامل
غرفة 19
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران