ابتسام غنيمه عن موقع ألفا لام
ما أصعب النّحت على الهواء وما أجمله… يرسم لوحات تتماوج فيها الألوان فتزدان الأحرف وتتباهى… تتألّق مناجية السّماء، مترنّحة، نشوى، فتنقلنا من عالمنا المألوف والرّوتينيّ حيث تصطدم معاناتنا الوطنيّة بحياتنا المتردّية اقتصاديًّا واجتماعيًّا، إلى عالم من الإبداع الشّعريّ المشرق نورًا وصفاء
وهل أصفى من وجه الأمّ الذي يرادف “وجه الحياة” والعرق الذي يترقرق من عينَي الأب مدخلًا نلج من خلاله عالم دورين المكتنز صورًا ورموزًا ودلالات؟
تنطق الكلمات، تهمس في قلبك، تنصهر في أحاسيسك، تشعلك. تبتسم لك، تأخذك معها في رحلة آسرة بحريّة بامتياز، تنطلق فيها من مدى أزرق ولا تنتهي إلّا عند المدى المقابل، فتكاد لا تطبق دفّتي الكتاب حتّى تعود وتفتحهما من جديد لتقرأ ثانية وثالثة… وتتملّى، فإذا بتمثال من الشّاعريّة يخرج من أنامل الشّاعرة التي سكبت روحها وإحساسها المرهف في مولودها البكر “نحت على الهواء”
لن أتعمّق في قراءتي هذه في مضامين الدّيوان، ولا في ما يحوي من صور تأسر الخيال. ولن أتوقّف مطوّلًا عند البنية التي تبعث الحياة في الكلمات، بل سأتناول النّقطة التي تشغل بشكل لافت معظم الصّفحات، وهي نظرة المؤلّفة إلى الشّعر وكيفيّة ولادة القصيدة
الفرادة
دورين شاعرة متفرّدة تريد أن تمارس فنون الكتابة على طريقتها. وقد بدأت فرادتها باعتبار نفسها امرأة مختلفة عن الأخريات. فإذا كنّ جميعًا يشاركن في كتابة قصيدة بفعل سلطان الوحي الذي يملكنه، فهي، المتورّطة في الشّعر والحبّ، متميّزة عنهنّ… تبقى على الهامش “لترتّب فوضى الحروف” التي “سقطت سهوًا من الأبجديّة”. ومن النّساء تنتقل إلى الشّعراء معتبرة أنّها ليست مثلهم لأنّها لا تحبّ “الدّخول إلى القصيدة من العتبات”، ما يعني أنّها لا تتناول المواضيع نفسها التي يعالجها غيرها: “كلّ المواضيع التي يتحدّث عنها الشّعراء ما عادت تغريني”، بل ستكتب “ما لم يرد في كتب الأدباء ولا الشّعراء… بأبجديّة جديدة لم تعترف بها الأمم”
ولئن كان الحبيب يكتب للجميلات والطّائعات وسيّدات العشق في التّاريخ العربيّ، فهي لا تستهويها الكلمات الرّقيقة، لأنّها غجريّة تتميّز بتمردّ لم يقف عند حدود الخارج، بل بلغ أقصاه إذ طال الذّات، الأنا الملتزمة، المكبّلة بقيود المجتمع، والتي ترفضها الأنا الشّاعرة، فتدخل إلى أعماق ذاتها، تستخرج منها ما يعتمل في داخلها كي تتمكّن من الكتابة
ازدواجيّة الأنا
تتوجّه الشّاعرة مخاطبة الأنا الخاضعة في صورة من التّحرّر الذّاتيّ بهدف التّمكّن من بلوغ حالة الصّدق الكلّيّ: “يا امرأة لا تقربي منّي! لا تقفي خلفي! لا تربكي سطري!”، معبّرة بذلك عن رفضها للوجه/ القناع الذي يضعه معظم النّاس في علاقاتهم الاجتماعيّة وحياتهم اليوميّة، كاشفة النّقاب عن الوجه الآخر، الوجه الحقيقيّ والشّفّاف والمختلف الذي يرضي عمليّة الإبداع الكامنة في حنايا الرّوح: “تلك المرأة ما عادت تشبهني… حين تلاحقني أرمي ظلّي على الأرض وأعانق القصيدة”. فإذا بها تلتقي مع قول أدونيس في مفهومه لقصيدة النّثر حيث قال إنّها تقدّم لنا “بتعبيرها عن تطلّعاتنا العميقة، الرّفض السّرّيّ في حياتنا، والحركات الرّوحيّة الغامضة، والوجه المختبئ في الظّلّ والعتمة، والذي هو مع ذلك، أكثر تعقيدًا وغنى وصحّة”
ولأنّ الشّعر عندها فرح نراها تعمل على استبعاد الحزن من الشّعر ومن الذّات الشّاعرة، فتقصي كلّ ما يؤلمها من ذكريات باردة لتكتب وتمحو خشية أن يصحو وجعها و”يسقي القصيدة”. فهي لا تريد إلّا الاحتفاظ بلحظة سعيدة عابرة كالومضة، كالبرق الذي غافل وجودها و”سقط/ في/ القصيدة”؛ فإذا بالكلمات تتساقط متوزّعة على الأسطر لترسم الصّورة بواسطة الشّكل الذي اعتبرته مجلّة “شعر” “نتيجة حاصلة لصياغة المضمون، وكلّ تحديث في المضمون يتطلّب تحديثًا في الشّكل”. كما أنّها تنفي من أفق حياتها، لبعض الوقت، ذاتها الحزينة، تلك المرأة الكثيرة البكاء والشّكوى لأنّها تربكها وتخيفها وترسم حزنها على ورقتها، لذلك تتركها تنام قبلها كي تتمكّن من رسم تجربتها الشّعريّة: “تلك المرأة التي نهضت قبلي… أنام بعدها لتغفو على جذع قصيدة”. فهي لا تريد أن تكتب عن الحزن، بل تبحث عن حرف تعيد من خلاله إلى القصيدة “صفاء زمن زائل”، وهذا الاسترجاع يتمّ من خلال الذّكريات، ولا سيّما الجميلة، فتلجأ إليها، تستلهمها، تستحضرها، وتستخرج منها إكسير كتابتها. إنّها تهرب من الزّمان والمكان: “خارج الزّمن.. خارج المساحة… تبحر الحروف…”، ولكن متى عصت هذه الذّكريات ولم تتمكّن من اختراق جدار اللّاوعي لتسكن وعيَها الشّاعريّ تتخلّى عن الكتابة: “لن أحتاجك بعد اليوم أيّتها القصيدة، بعد أن يبست في الذّاكرة كلّ الصّور البعيدة”
وكما الذّكريات تأتي من الماضي فتحييه، كذلك الحلم الذي قد يرتبط بالمستقبل، فكلّما “ولد حلم صار غصن القصيدة تذكرة عبور”
وخلال هربها من الواقع، من “صحراء اليقظة”، تكتب “على إيقاع الحياة” لتشعر بها وبلذّتها فتحيا، يقينًا منها بحتميّة الفناء. تبحث في القصيدة عن بصيص أمل، ترسل حبال الكلمات متمسّكة بها، لا تريدها أن تنتهي إذ “بين لحظة ولحظة شجرة تتنهّد بالنّسائم…”. وهكذا تلوذ بالقصيدة وتطول لحظات الانسلاخ عن العالم المادّيّ في عالم الشّعر اللّامحدود الذي يستدعي بدوره مكوّنات تساهم في تصدير موادّ للمخيّلة والإبداع. فما هي مصادر الوحي ومقوّمات الكتابة عند دورين؟
مصادر الوحي
صدقت الشّاعرة حين قالت: “لست في مزاج الكتابة”، فالكتابة لا تكون عملًا إلزاميًّا يفرضه المرء على ذاته، بل تتطلّب، قبل أيّ شيء، وضعًا نفسيًّا يتيح لملكة الإبداع أن تتحرّر وتكتب، ويمهّد السّبيل لعوامل الوحي من تأدية دورها الإبداعيّ، فيطالعنا الحبّ عاملًا فاعلًا في ولادة القصيدة، لأنّها حين أحبّت “صارت الشّمس تشرق من عيون القصيدة” وأزهرت كلماتُها. فمتى اقترب الحبيب أطاعت الكلمة، ومتى ابتعد ثارت عليها الكلمات. لكنّ الوحيَ الذي يمارسه عليها فعل الحبّ غير مرتبط بحضور الحبيب فحسب، بل تبقى في أذنيها رنّة صوته متردّدة حتّى أثناء غيابه، ما يشعل بريق الكتابة ليتحوّل صوته قصيدة. وبالتّالي، هو القصيدة ومحورها، كما أنّه محور حياتها لأنّها لا تحتاج وجوده الجسديّ لتكتب له لا ديوانًا بل مجلّدات، يكفي سكناه في فكرها وقلبها. وقد تملّك هذا الحبيب لغتها… استوطنها، وأصبحت كلّ مفرداتها تصبّ في واحته، فإذا بالقصيدة تتّجه إليه، رغمًا عنها ومن دون إرادتها: “كلّما ابتعدتُ عنه أجد قصيدتي تتّجه إليه”. ولأنّها ترفض هيمنة الحزن على سطورها تشاطره حزنه إن حزن، لكن متى فرح تخطّ حروفُها هذا الفرح. وفضلًا عن ذلك، هو متجدّد الولادة فيها رغم البعاد وما ينتج عنه من شوق يبعث الحياة في الحروف فتخضرّ وتتشكّل كلمات، ذلك أنّ العشق يولد “كلّما ضربت الأعاصير سفوح السّطور، وكسّرت المعاني، وأحدثت اهتزازات في الحرف والعبارات والجمل… وكلّما جفّ الشّوق يبس الحبر، تحجّر ملح الكتابة، وهربت الرّغبة، واختنقت كلّ الصّور”
وليست القصيدة وليدة الحبّ والشّوق فحسب، بل هي وليدة عوامل عديدة رومانسيّة الطّابع تشكّل المخاض لهذه الولادة، كالوحدة التي تعتبرها أجمل ما في العشق لأنّها تمكّن من مجالسة حرف “لا تخشى السّفر فيه كما يخشى المرء حفرة كبيرة”، وأجواء فصل الشّتاء مع ما تتضمّن من عطر المطر وصوته الذي يساهم في عمليّة الوحي الشّعريّ لأنّها حين تصغي إليه، كما تقول، “تتكدّس الحروف في سلّة أوراقي”، وكذلك الصّمت الذي حين يسيطر عليها يحرّر كلماتها من الألم، ويشذّب استعاراتها وصورها، ما يقلب المقاييس ويجعل جملها تنبض إحساسًا: “استعارة حفرت في جذور المعنى لتقلب رمل البحر… في شوارع المعاني التي جفّت عاطفتها”
ولادة القصيدة
وهكذا، ما إن يهبط الوحي حتّى تبدأ عمليّة الكتابة، فتلاعب الشّاعرة الحروف المتزاحمة في فكرها بيدها التي تمسك بالقلم، فتصفّق “لتلتصق أصابعها” مشكّلة كلمات تتّخذ معاني جديدة، بكرًا: “يا عذرية الحرف حين يلامس الضّوء”، تنساب تلقائيًّا، لا قدرة لها على إيقافها أو التّحكّم بها: “الكلمات تتدحرج ككرة بنفسجيّة، ترتطم ببياض الصّفحة”، فيسيل الحبر “من غير هداية” لتكتبَ القصيدة نفسَها بنفسها من جهة، ولتكتبَ الشّاعرةَ من جهة أخرى، ما يجعل الكاتبة عنصرًا حياديًّا في الكتابة الشّعريّة، إذ إنّها لا تشغل نفسها باختيار العبارة المناسبة مع ما تتضمّن من معانٍ ونغمات تتكوّن من تآلف الحروف وترابطها، بل تسعى إلى قصيدة نثر متحرّرة لفظًا ومضمونًا وإيقاعًا من الأساليب الموروثة ومن “دروس العبارة” التي تفرضها القوانين اللّغويّة، ذلك أنّ الشّعر كما يقول يوسف الخال، ليس “الكلام الموزون المقفّى، بل هو التّعبير الشّخصيّ الفريد عن رؤيا الشّاعر الشّخصيّة الفريدة”، وهو بحسب منيف موسى “التّعبير عن النّفس البشريّة… من غير أن يلتزم الشّاعر أو يُلزم، وبهذا يفهم أنّ كتابة الشّعر تنبع من الدّاخل” إلى الخارج، من الأعماق، من الدّم، من “داخل القلب”… فتولد القصيدة نتيجة التقاء الخطّ العموديّ المرتبط بهبوط الوحي وتساقط الأحرف، بالخطّ الأفقيّ المنطلق من الدّاخل، وذلك ضمن دائرة الذّات التي تحكم العلاقات بين الكلمات