لا يُنقِذ المبدعين من غبار عُصُورهم إِلَّا مبدعٌ يستحضرهم إِلى عصره ويصوغ أَعمالهم بأَمانةٍ مهنية في نمط حديث.. هكذا عبدالحليم كركلَّا تناوَلَ مُتَتَالية “شهرزاد” السمفونية (1888) رائعة ريمسكي كورساكوف (1844-1908)، وأَعاد تشكيلَها مضيفًا إِليها آلاتٍ شرقيةً زادت من تَمَوضُع “أَلف ليلة وليلة” في مناخ العصر.. وهو صاغها في ثلاثة مناخات موسيقية تَوازَت معًا: الكلاسيكيّ والشرقيّ والـ”غراهاميّ” (كركلَّا خرِّيج مدرسة مارتا غراهام وما زال وفيًّا لتقْنيتها بفسحة واسعة من رؤْيته الفنية في لغة الجسد).. لذا تتغيَّر معه هذه اللغة مع كل عطفة من فواصلَ في الرقص عرفَت أَليسار كركلَّا كيف تُهَندسها في جماليا كوريغرافية ساحرة.. ويزيد من بهجة المشهد ما أَضفاه بصريًّا إِخراجُ إِيفان كركلَّا الممسك بالمسرح كما بعصا مايسترو دقيقِ القراءة في تفاصيل جمالية نسجَها عبدالحليم كركلَّا بخبرته الطويلة في هذا العالَم الجميل من الفن الجميل، إِلى حد أَن تجيْءَ لحظاتٌ خلال العرض تتماهى فيها نوتاتُ الموسيقى بِلُغَة الجسد، فيُصبح الجسدُ صوتَ النوتة وتغدو النوتةُ صدًى للجسد..
ما حقَّقه كركلَّا بالــ”تشريق” (إِضافة آلات شرقية إِلى الأُوركسترا الأَصلية) في “شهرزاد” كورساكوف، اعتمدَه كذلك في متتالية الــ”بوليرو” (1928) رائعة موريس رافيل (1875-1937) فـ”شرَّقَها” كذلك.. هكذا راحت أَوتار القانون والعود والسنتُور وبُحة الناي تتماوج مع أَجسادٍ على المسرح تُزقزق فيها أَلوانُ الأَزياء البارعة التصاميم تَبهر الـمُشاهد بزوغتها في لوحات كوريغرافية لا تبدأُ واحدتُها بضعَ ثَوانٍ حتى تتداخلَ الثانيةُ فيها فالثالثةُ فالتالياتُ، ليُصبح المسرح أَفواجًا من لآلئَ مشهدية تتوالى منسجمةً في انسيابٍ سلسٍ، فتجعل من العرض كوكبًا زوَّاغًا يحمل المشاهدين إِلى أَبعاد قصوى من عالَم الجمال، بصريًا وسمعيًّا، لا تحدُّها إِلَّا فجأَةُ الستارة تعلن نهاية العرض الذي تكون دقائقه التسعون مرَّت في شهقة واحد من نبْض الجمال..
بهذه الدقة في كل نُوتة وخطوة وزوغة، نسجَ عبدالحليم كركلَّا مسرحيتَه “أَلف ليلة وليلة” (مسرح كركلَّا، سن الفيل، بدءًا من أَول آب) مجدِّدًا فيها بإِيقاعٍ عذْبٍ هو الْكان، حين عَرَضَها في لندن (مسرح “بيكوك”)، جعلَ الــ”دايلي تلغراف” تكتُب صباح اليوم التالي (16 آب 2003) أَن “ليلة كركلَّا أَفضلُ من ليلة بيجار”، وتكتُب “الصنداي إِكسبرس” في اليوم ذاته أَنَّ “فرقة كركلَّا تسلَّلَت إِلى قلوبنا في كل دقيقة من العرض”، وتُعطي كوريغرافيا عرض كركلَّا 3 نجوم تقديرًا، بينما لم تُعطِ كوريغرافيا فرقة بوريس إِيفمان سوى نجمتين..
هكذا، بين “شهرزاد” كورساكوف (الفصل الأَول) و”بوليرو” رافيل (الفصل الثاني)، صاغ عبدالحليم كركلَّا مسرحيته “أَلف ليلة وليلة” في مناخ سائغ متجانس خَتَمَهُ الانتقال من “أَلف ليلة” البغدادية إِلى “ليلة لبنانية” تَأَلَّقَ فيها حضورُ هدى حداد المتجدِّدة دومًا رشاقةَ غناءٍ وتمثيل، وجوزف عازار المحافظ على ثبات حضوره صوتًا متفردًا منذ ستة عقود، وسيمون عبيد الناهض دومًا بصوته وأَدائه، ويتمايز غبريال يمين بدَورَي “الراوي” و”حارس الحريم”، وعُمَر كركلّا في حضوره البعلبكي المعهود، لتَتَشَكَّلَ فرقة كركلَّا براقصاتها وراقصيها وممثِّلاتها وممثليها (“شهريار”: جورج خَوَنْد، “شاه زمان”: فرنسوا رحمة، “شهرزاد”: ليا بوشعيا) كوكبةً وضَّاءَةً في زمنٍ يريدُه لنا القدَرُ اللبناني القاسي مُعتمًا، فإِذا مقاومتُنا الإِبداعية أَقوى وأَبقى وأَرقى من كل ما يَحوك لنا هذا القدر..
بلى: لا يُنقِذ المبدعين من غبار عصورهم إِلَّا مبدعٌ يستحضرهم إِلى عصره..
وهو هذا ما فَعلَهُ عبدالحليم كركلَّا، مُزاملًا خلودَ الكبار، مُعادلًا خلودَهم بعرضٍ متفرِّدٍ هُويَّتُهُ: لبنان.
“أَزرار” رقم 1324 – “النهار”
الجمعة 26 تموز 2024