1
يرى جبران في واحدة من تأملاته في كتاب «العواصف» أن (بليَّة الأبناء في هِبات الآباء). قد تحتمل القراءة تأويلات دلالية وسياقية عدّة، لكن العبارة تشير في وجه من وجوهها إلى التسميات التي تلتصق بالإنسان منذ لحظة ولادته، فيمنحه الآباء اسماً، يصحبه طيلة عمره، ويتخذ موضعاً مهماَ في شخصيته، فيُسقطون ما يعانون وما يحبون، وما يحف بولادة وليدهم من أحداث أو أفعال.
كنتُ لزمن طويل أحسب أن اسمي يرتبط بمأثور عربي معروف حول كرم حاتم الطائي، وقصة تضحيته بفرسه لإطعام ضيوفه. كرم حاتمي لم أنل منه ما يعزز افتخاري به. لكنه ظل يلازمني كلصيق لا خيار لي في صحبته، حتى اكتشفت بالقراءة اللاحقة زمن النضج أن (الحاتم) صفة للغراب؛ لأن العرب، لاعتقادهم بالتطير والشؤم، يربطون الغراب بفراق أحبائهم، ويرون في نعيقه نذير حدث مزعج.
ربما استمدوا ذلك من قصة الخطيئة الأولى، وواقعة مقتل هابيل بيديْ أخيه قابيل وكون الغراب أرشد القاتل إلى فكرة دفن أخيه. لقد قدم في الحقيقة ما يحفظ للميت حقه في أن يُوارى التراب، لكن المخيلة الشعبية ظلت تحمِّله وزْر ما لم يفعله. وقد تنبه إخوان الصفا لذلك في إحدى رسائلهم فوصفوا الغراب بأنه (الكاهن المنبئ بالأنباء…المتوقي الحذِر.. الطوّاف في الديار، المخبر بالكائنات..المحذّر..). فهو ليس صانعاً للأقدار، بل المحذّر منها، فيستحق التقدير لذلك.
ستأتي التعلة والتهوين من صفة الحاتم للغراب حين تعلمت في النحو أن وصف الغراب بالحاتم من باب التلطف والشفقة، وخلق تضاد معنوي للفظ ما، كما في تسمية الأعمى بصيراً والملدوغ سليماً. شفقة أكثر قسوة على صاحبها لما يحف بها من تذكير له بما فقَده.
ثم سأكتب بعد سنوات فصلاً عن الكاهن الأسود في كتابي «البئر والعسل»، فكأنني تحررت من ربقة الاسم إلى توسيع دلالته ومواجهتها.
2
كثيراً ما تبرأ علناً بعض أعلام الشعر والتصوف من كنياتهم، كما فعل أبو العلاء المعري في لزومية له، إذ قال:
دُعيتُ أبا العلاء وذاكَ مينٌ ولكنّ الصحيحَ أبو النزولِ
ولا يغفل المعري دلالة التسمية وبُعدها الاجتماعي، فقد تأول قول المتنبي: (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي) بأنه يعنيه، مستبقاً انصرافه لشعره وشرح ديوانه بعنوان إشكالي: «معجز أحمد»، الذي تسبب في واحدة من لعنات كثيرة وُجهت له. وكثيراً ما وجه للحياة ما يزريها في أعين من يعيشها، كأن يكرر في شعره كنيتها بـ (أم دفر) لأنها تدفر أبناءها وتُنزل بهم الدواهي.
لكن أبا تمام يذهب عميقاً في ربط الاسم بدلالته من وجهة نظره، فيقول في تسمية الإنسان والقلب:
وما سمِّي الإنسان إلا لنَسيِه ولا القلب إلا أنه يتقلبُ
فقد اختار ذلك من بين تفسيرات عدة (كربط الإنسان بالأنس).
أنثروبولوجياً تنشأ التسمية في وعي الأشخاص بما يربطها بوضعهم الاجتماعي كالمهن المعروفة أو القيم المتداولة. فلا غرابة أن يكثر العرب من تسمية أبنائهم في طورَيْ الرعي والزراعة بأسماء تتصل ببيئاتهم، فتكثر عندهم التسمية بـ(صخر وحرب وحنظلة وشداد وثعلب وفهد..). كما يورد الباحث والشاعر العراقي صلاح السيد جاسم في كتابه «أنثروبولوجيا الأسماء والعوامل المؤثرة بها»، بغداد2021، أسماء يسمي بها أهل الصحراء والأرياف أبناءهم. وهي مما تقع عليه أبصارهم كما يقول، كأسماء الجوارح والطيور والضواري، مثل نمر وفهد وصقر وعُقاب، ويورد ما ذكره الجاحظ في كتاب «الحيوان» حول تفاؤل العرب بتلك التسميات حتى إن كان اسم (كلب) أو تصغيره (كليب) أو جمعه (كلاب).. لأنه متصل عندهم بالوفاء لصاحبه وحراسته لممتلكاته.
وتكثر في بيئات الريف تسميات الأنواء والطبيعة عامة، مثل رعد وبدر وسماء. كما يمثل لذلك بتسمية سكان الأهوار لأولادهم بأسماء الأسماك والمزروعات، مثل شبوط وقصب وغزال. ويربط ترقيق الأسماء وتخفيف حدتها بالتطور وتحديث الحياة، وما يدعوه بـ (الانشقاقات الحضارية) التي صاحبت الهجرات إلى المدن أو وصول مظاهرها إلى الأرياف والقرى. رغم أن ترقيق الأسماء إنما كان ينحصر في التراث بفئة العبيد، حيث يسميهم مستعبدوهم بأسماء خفيفة الوقع تدل على الجبن في رأيهم، أو تجنب الشجاعة والحروب، مثل صباح وسراج ونجم. ويستشهد بما جاء في «العقد الفريد» من أن العرب تسمي أبناءها بِشرِّ الأسماء، وتسمي عبيدها وندمائها بألطف الأسماء.
نستنتج من دراسته أن تسمية الفتيات كذلك لم تكن شغلهم الشاغل، فهي ترتبط بمواصفات عامة، كالجمال واللون وصفات أخرى، مثل غرّاء وحوراء ونجلاء أو تعكس اللطف والحنو والأمومة.
3
إن ما يحمله مبدأ الاسم من انعكاسات ميثولوجية، تجعل الفرد في مجتمعاتنا ينفر مثلاً من مجرد ذكر اسم الموت أو إبليس أو السرطان، أو الأشياء التي يحسبها نجسةُ. فلا يذكرها إلا مصحوبة بتعليق يجسّد خوفه أو تشاؤمه أو نفوره. وهو ما نتج عن تخيله حضور الشيء بذكر اسمه ووجوده مشخصاً في ذلك الاسم. وقد كانت أمهاتنا الجنوبيات يرفضن رمي فضلات الطعام مع القمامة؛ لوجود الخبز فيها. أو يعوّدن أولادهن على تقبيل قطعة الخبز التي تسقط على الأرض.
ولكن ربط الاسم بالشخص ومستقبله ووجوده يعكس جانباً آخر يتصل بالاعتقاد بالحسد وشروره وضرره على المولود، لذا يعمدون أحياناً لتسميته باسم ذي معنى متدنٍّ وسلبي، وكأنهم بذلك يصرفون عنه الأعين. وتقع هنا بليَّة أخرى من هبة التسمية الأبوية، ولا يعود من معنى للقول بأن لكل امرئ من اسمه نصيباً. فعقل التسمية يعمل في منطقة أخرى. إنه يربطه بتداولية اجتماعية، ويقرأ أفق تلقي التسمية ويربطها بدلالتها من بعد.
وثمة لمحة أنثروبولوجية أخرى يوردها مؤلف «أنثروبولوجيا الأسماء»، عن الجاحظ، وأسماها (تسمية الصدفة). حيث يخرج ولي الوليد من بيته منتظراً كلمة يسمعها من أول عابر، فيطلقها على وليده، وهي عادة تم توارثها في بعض أرياف العراق حتى وقت قريب.
4
للشعراء كما ظل في ذاكرتي، رأي آخر في التسميات. إنها شيء يفلت من الحضور والوجود بغياب صاحبه، فيقرنونها بالذاكرة والذكرى وما يتوسع عنها من دلالات. فيذكر السياب الاسم مقروناً بالبقاء، وزواله مقروناً بالكتابة على الماء حيث تمحى ولا تظهر. فيقول في قصيدة «المعول الحجري» وهي من فترة اشتداد مرضه:
«أين أبي وأمي أين جدّي أين آبائي؟
لقد كتبوا أساميهم على الماءِ
ولستُ براغب حتى بخطّ اسمي على الماء
وداعاً يا صحابي يا أحبائي
إذا ما شئتموا أن تذكروني فاذكروني ذاتَ قمراء
وإلا فهو محض اسمٍ تبدَد بين أسماءِ
وداعاً يا أحبائي».
وإذ يقلّب سعدي يوسف في قصيدته «باب سليمان» تسميات لأنهر البصرة، يقول:
«ما دجلةُ العوراء؟
ما المختارةُ الخضراء؟
أسماءٌ وماء».
أما التسمية في شعر محمود درويش فترصد فترات وعيه بقضية شعبه ووطنه. ففي «قصيدة الأرض» يسبغ الأسماء كما يريد شعرياً. هي أسماء تمنحها القصيدة للأشياء التي تقاوم المحتل، في آذار الانتفاضة وانبعاث الحياة تحتفي بالأرض التي يريد أن يديم احتلاله لها:
«أُسمّي الترابَ امتداداً لروحي
أُسمّي يديّ رصيفَ الجروحِ
أُسمّي الحصى أجنحهْ
أُسمّي العصافير لوزاً وتين
أُسمّي ضلوعي شجرْ».
لكنه يصارع معضلة الاسم بحوار هائل الدلالة مع اسمه، مدركاً بليَّته به:
«ولم أخترك يا ظلِّي السلوقيَّ الوفيَّ، اختارك الآباء
كي يتفاءلوا بالبحث عن معنى
ولم يتساءلوا عمَّا سيحدُثُ للمُسَمَّى عندما
يقسو عليه الاسم».
ويقلّب حروف اسمه الخمسة في فضاء مجازي أخّاذ رغم ما فيه من شجن وحسرة:
«واسمي، و إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي
ميمُ /المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى
واو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين
دال/ الدليلُ، الدربُ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني».
لقد رصدَ في التداعيات التي تتيحها حروف اسمه ما يضمر في توقعه لحياته، ممجداً امتلاكه كهوية، وكشفَ عن ما يحف بهذا اللصيق الذي لا نختاره، يتفاءل به الآباء، ويطلقونه ملاحِقا المسمّى في تيه مصائره ومآلاته.
5
أسماؤنا…
تصدح فيروز صباحاً بذكرى أسمائنا التي تعبَ الأهلون باختيارها. وهي في جوهرها كما أراد شاعرها جوزيف حرب ملخصاً: «الأسامي كلام»:
«أسامينا
شو تعبوا أهالينا/ تَلاقوها/ وشو افتكروا فينا
الأسامي كلام/شو خص الكلام/
عينينا هنّي أسامينا».
وفي آخر الأغنية تنتهي الأسماء محترقة، ولا يظل منها إلا رمادها. وتخبو كما تنطفئ كل نار في نهاية المطاف.
فالأسامي كلام وماء…
المصدر القدس العربي