محمد السيد إسماعيل
يمكن القول إن الشاعر المصرى الكبير أمجد ريان أكثر شعراء جيله تجريبا فقد بدأ شاعرا تفعيليا مبشرا وصاحب صوت متميز وظل لسنوات مخلصا لما استقرت عليه شعرية السبعينيات من جماليات تعتمد على تعدد دلالات النص الشعرى وحداثة الصورة الشعرية والاحتفاء بالمجاز لكنه – فجأة – ينقلب على كل هذا مجددا رؤاه الشعرية ومتأثرا بما استجد على يد شعراء التسعينيات من حيث التقشف اللغوى – إن صح التعبير – والاهتمام بالتفاصيل والمشاهدات اليومية والتبشير بما بعد الحداثة التى لم يبدع – فحسب – فى إطار جمالياتها بل أصبح منظرا لها فى كتبه النقدية ومتابعا لشعرائها الأمر الذى جعله أقرب إلى الأب الروحى لهذا الجيل وديوانه ” تى شيرت واسع بكل الألوان ” الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة شاهد قوى على ذلك بدءا من العنوان غير المعتاد .وهو مايضع أيدينا على لغته التى تمزج بين الفصحى والمعربة والدارجة التداولية كما يبدو فى الكثير من سطور الديوان مثل قوله ” يتمشى الإنسان / ويفكر فى أية طريقة / أو أى حل / ولكن أصوات ” كلاكسات ” العربات / آتية من هنا ومن هناك ” أو ” أضع النظارة فوق عينى / وأنظر لشاشة ” اللاب توب ” فى يأس ” أو ” أضع الطعام على ” رخامة ” المطبخ / والشقة صامتة تماما / و” الموبيليا ” كلها ” سكتم بكتم ” ” أو ” المرأة تمشى بطيئة ” بالشبشب ” المفتوح ” فالكلمات بين القوسين تتوزع على المعربة والعامية ناهيك عن الفصحى التى تمثل متن القصيدة .فما الذى يدفع الشاعر إلى ذلك ؟ هل لأنه لايستطيع امتلاك اللغة كما يقول ” أنظر لشاشة ” اللاب توب ” فى يأس / متأكدا أننى لاأملك اللغة ولن أملكها ” ؟ أم لأنه يريد أن يصطنع لغة شفاهية تواصلية عارية من المجاز البلاغى القديم ؟ هذه كلها تفسيرات واردة خاصة أن ” الكلام دائرة مفرغة / واللغة دائما حمالة أوجه / ونحن المساكين نتصور فى كل مرة أن اللغة ستصل بنا إلى بر الأمان / فإذا بنا فى قلب المتاهة ” ولاشك فى أن هذه المتاهة ناتجة عن طبيعة العصر الرقمي وغلبة النزعة الاستهلاكية يقول ” فى هذا العصر الرقمي / فارغ المحتوى / أنا مجبر على المقارنات بين أجساد البنات الفاتنات ” هذا العصر الرقمى الذى يؤدى إلى تشيؤ الإنسان أصبح كل شىء فيه قابلا للبيع والشراء ف ” الخيالات صارت تجارية / والمرايا والزحام العنيف / الزحام التجارى يصب من الشارع العريض للميدان / ومن الميدان للشارع العريض ” لقد أصبحت التجارة صرعة العصر ، وإذا كانت اللغة عاجزة فى الوصول إلى معنى لهذا اللهاث الدائم فإن الشاعر يستعيض عنها بلغة الجسد حيث يصبح البشر قادرين ” على ربط الخيال بحركات الجسد وإيماءاته ” ولهذا يجعل الشاعر فهم لغة الجسد مقدمة ضرورية لبدء أى نقاش يقول ” افهموا لغة الجسد جيدا وبعد ذلك تعالوا لنتناقش ” لكن الغرق فى الشكليات تجعل الإنسان جاهلا بذاته فلو سأل نفسه بصدق ” من أنا وما الذي أفعله ؟ قد يصاب بالفزع ” والفزع من المعرفة يذكرنا بأوديب الذي كانت معرفته سببا فى مأساته وتستدعى المتاهة ما يقع فى دائرتها الدلالية مثل الشعور بالفشل فى كل شىء وهكذا ” تبقى بصمة الهزيمة / كامنة في الأعماق ” ويبقى الشعور بالغياب والعبث واليأس قائما ويصبح الظلام الذى يتسع كل يوم أكثر هيمنة ويرسم الشاعر صورة بالغة التأثير للحزن الذي يسيطر على الجميع بقوله ” الحزن وتد مدقوق فى عظامنا / الحزن محبوك على قدر حياتنا ” وترجع هذه المشاعر كلها إلى ما يحيط بالشاعر من مفارقات يمكن أن نمثل لها بقوله ” الرجال يضحكون / والنساء يضحكن / والأطفال يضحكون / ولا أحد يعرف الكارثة التى ستحل بنا بعد قليل أو الجمع بين القضايا الكبرى والتفاصيل الصغيرة فى قوله ” أنا حزين لأجل قضايا كبرى / ولأجل تفاصيل شديدة الصغر ” وفى سطور أخرى يجعل خلفية المشهد موازية للدلالة العامة التى يريدها مثل قوله ” المرأة التى تحكى قصة حياتها باكية / وخلفها على السور / قط ذكر طويل بأقدام قصيرة يهاجم القطة الأنثى ” وفي شواهد أخرى يوظف الكناية كما في قوله ” هناك فى البلاد البعيدة / المدن توحشت / وعروسة بلاستيكية محطمة الذراعين / ملقاة فى التراب ” فهذه العروسة كناية عن توحش المدن التى يشير إليها كما يوظف الشاعر التناص فى قوله ” تعب هي الحياة وألم فى بطن الساق / لكثرة المشي ” حيث تتناص مع قول المعري ” تعب كلها الحياة ..” والتناص مع قصة سندريلا فى قوله ” كل امرأة تشعرني بأنها هي التي فقدت فردة الحذاء / وأن أتباع الأمير سيعرفون مكانها لتنال الجائزة الكبرى ” وهناك أيضا ما يمكن أن نسميه ” إيقاع التكرار ” حين يقول فى قصيدة ” خرجت بالأمس اشترى ” كارت المحمول ” ” : ” اليوم دائرة مفرغة ” و” الكلام دائرة مفرغة ” و” الضوء دائرة مفرغة ” وهذا التكرار يصنع إيقاعا تستبدله قصيدة النثر بالإيقاع التفعيلة .وقد ذكرنا أن شعرية أمجد ريان لاتبتعد كلية عن القضايا الكبرى بل تجاور بينها وبين التفاصيل الصغيرة وتجعل من هذه التفاصيل مدخلا لما تريد طرحه من قضايا وجودية وهذا ما نلاحظه أيضا في قصيدة ” أحيانا أتصور أن الحياة محض سراب ” حين يجاور بين قراءته لرواية ” باولو كويلو ” وما بها من قضايا وحركة طفلين أى أنه ينتقل من الخيالى الفنى إلى الواقعي حين يقول ” فى الوقت الذى كنت أقرأ فيه رواية ” باولو كويلو ” / كان هناك طفلان يضع كل منهما ذراعه على كتف الآخر / ويمشيان فى الشارع العريض المزدحم / كأنهما متفقان تماما / على مواجهة شراسة الحياة ” وهذا معناه أن أمجد ريان لم يتخلص تماما من الإرث السبعينى بل مزج بين بعض ملامحه وملامح القصيدة التسعينية فى رهافة واضحة
غرفة 19
- إنسـان فيتـروفيـوس- للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم