
أنثروبولوجيا الصرخة واللحن.. "Bohemian Rhapsody" كطقس عبور للذات المعاصرة
د. سعيد عيسى
تبدو “Bohemian Rhapsody” لفرقة كوين (Queen) كأنها كائن موسيقي غريب وحيّ، يتجاوز حدود الأغنية ليغدو طقسًا سرديًا مكتملًا، أقرب إلى أسطورة حديثة تعبّر عن أزمة الذات المعاصرة. كوين هي فرقة روك بريطانية أسطورية تأسست في لندن عام 1970، وتألفت من المغني فريدي ميركوري، وعازف الجيتار برايان ماي، وعازف الطبل روجر تايلور، وعازف البيس جون ديكون. اشتهرت الفرقة بدمجها المبتكر بين موسيقى الروك والأساليب المسرحية والأوبرالية والمؤثرات الصوتية المعقدة، مما منحها طابعاً فريداً وجعلها إحدى أكثر الفرق تأثيراً في تاريخ الموسيقى العالمية. صدرت أغنية “Bohemian Rhapsody” عام 1975 ضمن ألبوم “A Night at the Opera” لتصبح أيقونة للفرقة ومثالاً على عبقريتها الموسيقية. من زاوية أنثروبولوجية، يمكن النظر إلى هذا العمل ليس فقط كابتكار فني، بل كطقس جماعي يعيد صياغة علاقة الإنسان الغربي الحديث بالذنب، والموت، والحرية.
تبدأ الأغنية بلحنٍ حميمٍ هادئ، كاعترافٍ شخصيّ أمام مرآة الروح (“Mama, just killed a man”)، ثم تتفجّر في مقاطع درامية متتابعة تتناوب بين الحزن والتمرّد والهذيان. هذه البنية المتعددة الأصوات ليست مجرد تجريب موسيقي، بل تحاكي البنية الشعائرية القديمة للطقوس الانتقالية التي حددها أرنولد فان جينيب: الاعتراف (الانفصال)، المحاكمة (العتبة)، الموت، ثم التجدّد (الاندماج). في هذا المعنى، فريدي ميركوري لا يؤدّي أغنية، بل يقود شعيرة تطهيرية يعبر فيها الفرد من مرحلة إلى أخرى — من الخطيئة إلى الغفران، من القيد إلى الانعتاق. في الثقافة الغربية، كما تُحلّل الأنثروبولوجيا الرمزية، يحمل مفهوم “الذنب” جذورًا مسيحية عميقة، والبحث عن الخلاص يتحوّل إلى حاجة جمالية وروحية. تتجلى “Bohemian Rhapsody” بوصفها إعادة كتابة لهذا الطقس الديني في قالبٍ دنيويٍّ جديد: فالمغني الذي “قتل إنسانًا” لا يبحث عن الغفران من السماء، بل عن المعنى في ذاته. الجريمة هنا هي الذنب الوجودي الأكبر: خيانة الذات أو التنازل عن الأصالة. هنا يلتقي المسرح بالقدّاس، والروك بالتراتيل، في مشهدٍ يجمع بين السخرية والقداسة في آن. المقاطع الأوبرالية (Figaro! Galileo! Magnifico!) ليست مجرد حشو موسيقي، بل هي صوت المحكمة الداخلية، صوت المجتمع والضمير الجمعي الذي يحاكم الذات المنفلتة.
من حيث البنية الموسيقية، الأغنية تُشبه ملحمةً مصغّرة؛ إذ تجمع بين الأوبرا والروك والبلوز في توليفةٍ واحدة، كأنها تجسيد صوتي لفوضى الإنسان الحديث. هذا المزج بين الأنماط يعكس، أنثروبولوجيًا، حالة اللاانتماء الثقافي (Anomie) التي تميّز نهاية القرن العشرين: إنسان يعيش بين القديم والجديد، بين المقدّس والعابر، يحاول بناء معنى من الشظايا. وكأن الأغنية تقول: لم يعد ثمة سردية واحدة تفسّر العالم، فليكن الفنّ هو الدين الجديد، و”الراية الأوبرالية” هي الأداة الوحيدة لجمع أجزاء الهوية المتناثرة. “بوهميان” في العنوان ليست فقط إحالة إلى البوهيمية بوصفها أسلوب حياة متفلّت من القيود، بل إلى هوية ثقافية للمنبوذ، للفنان الذي يعيش خارج النظام الأخلاقي والاجتماعي. أما “الرابسودي” – أي المقطوعة الحرة الانفعال – فهي الشكل الموسيقي المناسب لهذا الاضطراب. فالحرية هنا ليست اختيارًا واعيًا، بل انفجارًا داخليًا للذات الممزقة.
الأنثروبولوجي يرى في “Bohemian Rhapsody” وثيقة عن تحوّل الطقس الديني إلى طقس موسيقي شعبي: جمهور الملايين الذي يردّد كلماتها وإيقاعاتها الجسدية في الحفلات، يشترك في لحظة جمعية من التطهير العاطفي (Catharsis)، كتلك التي كانت تُمارس في المعابد القديمة. هذه المشاركة الجماعية تولّد “روح الجماعة” أو Communitas حيث تذوب الفوارق الاجتماعية مؤقتًا ليصبح الجميع شركاء في رحلة روحية/موسيقية واحدة. الصرخة “Nothing really matters” في النهاية ليست انتحارًا معنويًا، بل إعلان عن إدراكٍ مأساويٍّ بأن المعنى لا يُعطى سلفاً، بل يُخترع أو يُنْكَر.
بهذا المعنى، الأغنية هي مأتمٌ للمعنى واحتفالٌ بالحياة في آنٍ واحد. إنها نصٌّ أنثروبولوجي بامتياز، يرسم صورة الإنسان الحديث وهو يقف عاريًا أمام نفسه، ممزقًا بين الذنب والحرية، بين الخلاص والعدم، يبحث في الموسيقى عمّا فقده في الميتافيزيقا. “Bohemian Rhapsody” ليست فقط تحفة فنية، بل أسطورة معاصرة تُغنَّى بالكهرباء بدل البخور، وتُقام على المسرح بدل المذبح، لكنها في جوهرها تكرّر السؤال الإنساني القديم نفسه: من نحن، وماذا نفعل بهذا الوجود الممزق؟
