أغنية “فندق كاليفورنيا“ ليست فقط أشهر أعمال فرقة الإيغلز (The Eagles)، بل نصٌّ رمزيٌّ كثيفٌ يمكن قراءته كبيانٍ أنثروبولوجيٍّ عن تحوّل المجتمع الأمريكي في السّبعينيات، وعن المصير الوجوديّ لجماعةٍ فنيّةٍ وجدت نفسها داخل الفندق ذاته الذي غنّت عنه: لامع، متخم، بلا مخرج.
تأسّست فرقة الإيغلز في أوائل السّبعينيات من القرن الماضي في لوس أنجلوس على يد دون هنلي وغلين فراي، قبل أن ينضمّ إليهما دون فيلدر وجو وولش وغيرهم. برزت الفرقة في مرحلة الانتقال من الروك الريفيّ (Country Rock) إلى الروك الكلاسيكي، ونجحت في أن تجعل من موسيقاها تعبيرًا دقيقًا عن الرّوح الأميركية ما بعد الستينيات – روحٍ ممزّقةٍ بين البراءة التي بشّر بها جيل الهيبيز والواقعيّة الماديّة لعصر الشّركات والإعلانات. كانت الإيغلز فرقةً تبحث عن المعنى وسط البريق، وعن الأصالة في مدينة لا تعرف إلا الواجهات.
في هذا السّياق، وُلِدَتْ “فندق كاليفورنيا“ عام 1976، كصرخةٍ جماليّةٍ وفكريّةٍ في وجه التحوّل الثقافيّ.
حين عزف دون فيلدر لحنه على جيتاره ذي الاثنتي عشرة وتراً في منزلٍ مطلٍّ على شاطئ ماليبو، كان يبتكر موسيقى هجينةً – إسبانيّة النَّفَس، سينمائيّة المزاج – تُنْذِر بشيءٍ غامضٍ. التقط هنلي وفراي هذه النّغمة بوصفها فرصةً لتجسيد مفارقة أميركا الحديثة: الجنّة التي تُخفي في داخلها الجحيم، والحُلم الذي يتحوّل إلى شركٍ ذهبيٍّ.
أنثروبولوجيًا، يمكن قراءة الأغنية كلحظة وعيٍ ثقافيٍّ، تمثّل العَتَبَة (liminality) في الثّقافة الأميركيّة – تلك الحالة التي وصفها فيكتور تيرنر حيث تكون الجماعة عالقةً بين نظامين: القديم الذي ينهار والجديد الذي لم يولد بعد.
إضافةً إلى البعد الأنثروبولوجي المتعلّق بالعتبة والطّقوس الاستهلاكيّة، تحمل الأغنية صدىً للأساطير الإغريقيّة التي تتناول الإغواء القاتل. لا يمثّل الفندق مجرّد مركز استهلاكٍ حديثٍ، بل هو نسخةٌ معاصرةٌ من جزيرة سيرس (Circe’s Island) أو أرض آكلي اللوتس (Lotophagi) من ملحمة الأوديسة. ففي الأسطورة، تُغوي سيرس الرّجال وتحوّلهم إلى خنازير، بينما تُنسي زهرة اللّوتس البحّارة رغبتهم في العودة للوطن. في ‘فندق كاليفورنيا’، لا يُحَوَّل النزلاء جسديًّا، بل روحيًّا: يُخَدّرون بـ ‘النبيذ الورديّ الحلو’ وبِصُوَرِ النّجاح والتّرف لدرجة أنّهم يفقدون الإرادة للمغادرة. الفندق هو سجنٌ سحريٌ لا يُغْلَق ببابٍ حديديٍّ، بل بفقدان الرّغبة في التّحرر. هذا الإسقاط الأسطوريّ يعزّز فكرة أنّ الأغنية لا تتناول مشكلةً اجتماعيّةً عابرةً، بل تناقش شرطًا وجوديًّا للبشريّة أمام جاذبيّة الجنّة المصطنعة.”
في الأغنية، المسافر على الطّريق الصّحراويّ ليس شخصًا بعينه، بل رمزٌ للإنسان الأميركيّ وهو يعبر صحراء الرّفاهية نحو فراغٍ روحيٍّ لا قرار له. الفندق، ببريقه وغموضه، ليس مكانًا مادّيًّا، بل معبدًا دنيويًّا للنّجاح، طقسًا استهلاكيًّا يُخدّر الجماعة بدل أن يخلّصها.
عبارة “يمكنك أن تسجّل خروجك متى شئت، لكنك لا تستطيع المغادرة أبدًا” ليست مجرّد جملةٍ شعريٍّة، بل إعلانٌ عن فقدان القدرة على الهروب من دائرة الرّفاه والاستهلاك – من فندق المجتمع الحديث نفسه.
الّلحن بدوره يحمل بعدًا أنثروبولوجيًّا آخر: فهو لا يروي القصّة بالكلمات فقط، بل بالبنية الصّوتيّة ذاتها. التدرّج اللّحنيّ المتصاعد، ثم التّداخل بين جيتارَيْ فيلدر وجو وولش، يشبهان حوارًا بين العقل والجسد، أو بين الإنسان والحلم الذي صنعه. هذا الحوار، الذي يتصاعد حتى الذروة، يعمل كطقسٍ تطهيريٍّ (catharsis) لجماعةٍ موسيقيّةٍ وجمهورٍ يعيش القلق ذاته. فكما كانت أميركا تعاني من صدمة ما بعد فيتنام وووترغيت وانكسار الطوباويّات الستينيّة، كانت الإيغلز تعيش انهيار تماسكها الدّاخلي تحت ثقل النّجاح والشّهرة.
الأغنية إذًا ليست مجرّد نقدٍ للحلم الأميركيّ، بل انعكاسٌ حيٌّ لتجربة الفرقة نفسها: من التّناغم إلى الانقسام، من الجماعة إلى الفرديّة، من النشوة إلى الانفجار.
يمكن النظر إلى «فندق كاليفورنيا» كوثيقةٍ أنثروبولوجيّةٍ عن تحوّل القيم الأميركية في لحظةٍ مفصليّةٍ من القرن العشرين. فبينما يحتفي المجتمع بالحرّية والاستهلاك والنّجاح الفرديّ، تكشف الأغنية الوجه المظلم لهذه القيم – الوحدة، فقدان المعنى، والانغلاق داخل نظامٍ من الصّور والرّغبات. إنها لا تنتقد من الخارج، بل تتكلّم من داخل الحلم، بلسان من عاشه وشهد انهياره.
وبعد مرور عقودٍ، بقيت الأغنية مثل أسطورةٍ موسيقيّةٍ تروي حكاية جيلٍ دخل الفندق طائعًا ولم يجد باب الخروج. أما الإيغلز، فقد أصبحوا نموذجًا لـ”القبيلة الموسيقيّة” التي مثّلت أميركا الحديثة بكل تناقضاتها: الحرّيّة، الفرديّة القاتلة، والبحث المحموم عن الخلاص في عالم بلا مخلّص.
هكذا صارت “فندق كاليفورنيا“ مرآةً مزدوجةً – لفرقة الإيغلز وللثّقافة الأميركيّة نفسها – أغنية عن الحلم حين ينقلب على ذاته، وعن الفنّ حين يصبح أكثر صدقًا من الواقع الذي أنجبه.
