بين الفيلم الوثائقيّ لسيلين ديون عن تحوّل حياتها بعد المرض، ومقالة الياس خوري عن عام من الألم، مرّت أمامي أنا ماري القصّيفي أربع وستون مرحلة من المعاناة النفسيّة والآلام الجسديّة شتّت انتباهي عن الفيلم والمقالة. ومع ذلك علق بذهني الترف في حياة سيلين يطمئنها إلى أنّ الطبّ في خدمتها، وخاتمة مقالة الياس خوري عن غزة وفلسطين، يستمدّ منهما لا من لبنان الصمود والأمل.
لن أزايد على أحد في نسبة المرض، ومستوى الأوجاع. فهناك من عانى وتعذّب أكثر من المسيح ومريم والحسين وزينب وسيلين والياس، وأكثر منّي بما لا يُحصى من المرّات. يكفي أن نتذكّر سجناء الأنظمة العربيّة والديكتاتوريّات العالميّة، وما يجري في الحروب، وما يعانيه ملايين المعوّقين عن الحركة التامة منذ ولادتهم.
ليست هنا المسألة، بل في أمراض الأطفال وآلامهم وهم لا يعرفون سببها ولا نتائجها ولا الآثار التي ستتركها عليهم مدى الحياة.
كان نجم سيلين ديون في الرابعة عشرة من عمرها قد بدأ بالسطوع وتجري المقابلات وتخطّط لمستقبلها، أنا كنت طريحة الفراش بسبب العمليّة الجراحيّة الثانية. سيلين رقصت، غنّت، سافرت، مارست السباحة والرياضة، انتعلت أحذية بكعب عالٍ، وملابس مثيرة، أحبّت، تزوّجت، أنجبت، عاشت أعمارًا في عمر. والآن هي مصابة بمرض نادر. وكلّ ما يشغل بالها وبال العالم إن كانت ستعود للغناء، فضلًا عن استرجاع أمجادها.
أنا كنت أسأل نفسي إن كان سيتاح لي المشي. وإن كان أحد سيرضى بالارتباط بفتاة عرجاء في مجتمع يتسلّى بالتنمّر، وحين ترفض رجلًا يقول لها اشكري ربّك لقيتي مين يطّلع فيكي. ولا تذهب إلى البحر لأنّها تخشى أن تُحرج من معها، ولا ترقص لأنْ لا أحد يدعوها إلى الرقص.
الياس خوري يصف عامًا من الألم. دعني أخبرك يا أستاذي الذي أحبّ رواياته والذي نشر مقالاتي في ملحق النهار، أنّني في العاشرة من عمري أمضيت سنة ونصف في السرير أخضع لعمليّة تطويل في الساق. ولا يزال صوت تلك الفتاة يصرخ في أذني مع كل صباح حين تصحو وهي تعرف أنّ الطبيب سيمرّ لثوان، وعلى مدى ثلاثين يومًا، ليطيل ساقها مليمترًا واحدًا يكفي كي تشعر بأنّ الموت أسهل ألف مرّة. وفي هذه السنة والنصف تابعت برامج تلفزيون لبنان، تابعت وقائع مأتم جمال عبد الناصر، واستمعت إلى حوار بين المطران خضر وأنسي الحاج وغسّان تويني عن الله ودوره في حياتنا، وأنسي يسأل بالنيابة عني، ربّما، لماذا يسمح الله بالألم. رحل أنسي وغسّان واحتفل المطران خضر بعامه الأول بعد المئة. وما زالت تلك الفتاة تنتظر الجواب. وإن تعلّمت مع الوقت والعمر أن لا دخل لله بكلّ ذلك.
الياس خوري أيضًا عاش وصار أديبًا عالميًّا، وسافر والتقى كبار السياسيّين والأدباء، وتزوّج وصار أبًا وجدًّا، لكنّ سنة واحدة من الألم في غرفة خاصّة له جعلته يعيد حسابات العمر. والصغيرة التي كنتها وضعوها مع العجزة المحتضرين لأنّها لم تعد طفلة لتكون في قسم الأطفال.
مأساة تلك الصغيرة ليست في رجلها، بل في ذاكرتها التي لا تنسى آلام الآخرين حولها. بينما سيلين والياس يتحدّثان عن ألميهما الخاصّين. مأساة تلك الطفلة، وسواها من الأطفال المرضى والمعوّقين أنّهم لم يعيشوا حياة كاملة ثمّ مرضوا. بل مرضوا وصار عليهم أن يتعلّموا كيف يعيشون بأقل قدر من المعاناة ومن دون أن يكونوا عبئًا على أحد. وكيف يسدّدون الديون للأهل، ويعتذرون من الأخوات والإخوة لأنّهم سرقوا منهم ع غير قصد الاهتمام والرعاية، وكيف يقنعون الأصحّاء أنّهم يسمعون ويلاحظون ويبكون في صمت. لا بسبب أوجاعهم الجسديّة فحسب، بل لأنّ الندوب التي التأمت في الجسد ستبقى تنزّ في الذاكرة.
قرأت منذ زمن مقالة للدكتور فيليب سالم، زمن كان يعالج الثريّ أوناسيس. قال هذا الأخير لطبيبه وهما على شرفة القصر: أنظر إلى هذا البستاني. أنا أحسده على صحّته، وهو يحسدني على ثروتي. فكّرت يومذاك أنّ هذا الثريّ يريد كلّ شيء: الصحة والمال والجاه والشهرة والحب والزواج من أرملة جون كينيدي، ولكن من قال له إنّ البستانيّ لا يكتفي بالصحّة وتشذيب الأشجار وريّها.
سيلين ديون لن يعنيها ما أكتبه، ولن يخبرها أحد أنّني أتمنّى لها الشفاء ولكن أيضًا أن تتذكّر أنّها عاشت. وآمل ألّا يعتب الياس خوري على الصبيّة التي تكتب الآن، وهي تستعيد مع تقدّمها في العمر أوجاعها القديمة، وترجوه ألّا يكتب عن ألم سنة أمام من يتألم كلّ يوم.
هل هذا يعني أنّني لست متعاطفة معه ولا أتمنّى له الصحّة والعافية؟ قطعًا لا. لكني أريد له أن يفكّر من خلال آلامه بآلام البشريّة التي كتب عنها في رواياته ولكن من دون أن يختبرها في جسده. وأن يتذكّر كذلك أنّه عاش.
قال لي يحيى جابر بعدما قرأ شذرات كتبتها في صحيفة النهار عن شلل الأطفال: اكتبي كل شي مرة وحدة وخلّصينا. وضحك ليخفّف من قسوة كلمته. وضحكت لأنّني فهمت ما يرمي إليه: ألّا يكون الشلل عذرًا أختبئ خلفه كي لا أعيش. لكن لا يحيى ولا سواه فهم ما معنى أن تولول أمّي – بطيبة قلب أفهمها الآن – وهي تراني أحمل ابن الجيران: إنتي ما فيكي تحملي ولاد، بتوقعي وبتوقّعين معك. يومذاك قلت: إذًا من سيحمل أولادي؟ أو أن يستغرب والدي كيف يحبّني رجل، فيخاف عليّ منه ويقول لأمي: خايف يضحك عليا، أكيد أهلو ما رح يقبلوا. يومذاك قلت: يمكن معو حقّ. أو أن يخبرني أحد طالبي القرب المنسحب: قالولي ما بتجيبي ولاد. فأقول ساخرة: وهل أنا مريم بنت عمران كي أنجب من ساقي؟ طبعا الزلمة ما فهم شي.
فيا أيّها المتألّمون الكبار العاجزون عن تقبّل الألم… اخشعوا أمام أوجاع الصغار والفقراء والمعوزين. فلا أنتم ولا المسيح ولا مريم ولا الحسين ولا زينب ولا الله نفسه بقادرين على شرح سبب المرض أو الإعاقة لطفل أو طفلة، ومحو ما تركته المعاناة في نفوسهم.
لسيلين والياس ولكل مريض… آلامكم توجع ذاكرتي.