هذه اللوحة مهمّة جدّا، ليس فقط لأننا اعتدنا رؤيتها في الكثير من الأماكن، وإنما لأنها أيضا ترمز إلى امتزاج الفنّ بالعلم خلال عصر النهضة، كما أنها توفّر دليلا آخر على عبقرية دافنشي وتنوّع مشاغله واهتماماته.
في اللوحة يصوّر ليوناردو رجلا عاريا في وضعين عموديين متداخلين، بينما تبدو ذراعاه وساقاه في حالة تماسّ مع محيط مربّع ودائرة. وفي أعلى اللوحة وأسفلها سجّل الرسّام بعض الملاحظات التي أراد من خلالها أن يشرح ما قصده من اللوحة.
وعلى الرغم من بساطة الشكل المرسوم فإنه أصبح مع مرور الأيّام احد أشهر الأعمال التشكيلية وأوسعها انتشارا. وكثيرا ما تُستدعى اللوحة عند الحديث عن مواضيع مثل التناغم الداخلي والشفاء الذاتي من خلال اليوغا والتأمّل.
وليس بالمستغرب أن يكون للّوحة هذا الظهور الدائم والمتكرّر في الإعلانات وعلى شعارات المراكز والنوادي الصحّية.
والأساس الذي بنى عليه دافنشي موضوع اللوحة هو فكرة وردت في كتاب للمهندس المعماري الروماني ماركوس فيتروفيوس الذي عاش في القرن الأوّل قبل الميلاد.
كان فيتروفيوس، بالإضافة إلى اشتغاله بالهندسة المعمارية، مهتمّا بالفلسفة وبالأمور الروحانية. وكان يتبنّى فكرة تقول بالتكامل بين شكل الجسد الإنساني والبنى المعمارية. كما كان ميّالا إلى استخدام مصطلحات معمارية لوصف جسم الإنسان، مؤكّدا على أن العمارة الجيّدة ليست في واقع الأمر سوى استمرار لقوانين الطبيعة.
ولطالما اعتبر فيتروفيوس جسم الإنسان نموذجا للكمال وأن شكل أطرافه يتفق مع الأشكال الهندسية الكاملة، أي الدائرة والمربّع.
فلسفة فيتروفيوس وأفكاره الهندسية لاقت رواجا واسعا خلال عصر النهضة الإيطالي. وقد طُبّقت مبادئه وأفكاره في تصميم الكنائس التي روعي في بنائها الأشكال الدائرية، باعتبار أن الدائرة مرتبطة بالقداسة وباكتمال الخَلق وإحكامه. وهو ما كان يقول به فيتروفيوس وغيره من فلاسفة الرومان القدماء.
وكانت تلك الأفكار مصدر إلهام للكثير من الرسّامين. وقد حاول ليوناردو من خلال هذا الرسم المنفّذ بالحبر الأسود توضيح عنصري التكامل والسيميترية اللذين تحدّث عنهما الرومان في العلاقة بين المعمار وجسم الإنسان.
وما ساعد ليوناردو على إتمام هذه المهمّة براعته ومعرفته الواسعة بالتشريح والهندسة المعمارية. واللوحة تعبّر عن فهم الفنان للعلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة. إذ كان دافنشي يعتقد بأن وظائف جسم الإنسان تشبه كثيرا وظائف الكون وتتكامل معها. كما كان يرى في المربّع رمزا للوجود المادّي وفي الدائرة رمزا للوجود الروحي. ولعلّه أراد من خلال اللوحة أيضا أن يؤكّد على العلاقة القويّة والمتبادلة بين هذين العنصرين.
من المعروف أن فيثاغوراس، أيضا، تبنّى أراءً قريبة ممّا قال به فيتروفيوس ودافنشي. كان يرى، مثلا، أن الدائرة مرتبطة بالسماء وبالكواكب التي تدور حول الأرض؛ ما يعطيها، أي الدائرة، رمزية روحية. وهذا ما يفسّر اهتمام الناس بتوظيف الأشكال الدائرية في بناء المعابد والكنائس وغيرها من دور العبادة. بينما المربّع مرتبط بالعالم المادّي، فهناك أربعة فصول وأربعة عناصر وأربعة اتّجاهات.. إلى آخره.
كما كان فيثاغوراس يعتقد أن الرموز والتجريدات الرقمية تشكّل أساسا لفهم العلاقة بين الإنسان والكون، وأن فهم هذه العلاقة بشكل أفضل لا يتحقّق إلا من خلال التأمّل والغذاء النباتي والتمسّك بأهداب الأخلاق والفضيلة.
الغريب أن فيثاغوراس عاش في نفس الفترة التي عاش فيها بوذا. وكلاهما كان معنيا بمسائل التأمّل والتطهير والتقمّص والطبيعة المزدوجة للإنسان.
الجدير بالذكر أن ليوناردو دافنشي لم يكن الرسّام الوحيد الذي حاول تصوير العلاقة بين الإنسان والكون. فقد جاء بعده فنّانون حاولوا تقليد هذه اللوحة والنسج على منوالها، ومن أشهرهم الرسام وليام بليك والنحّات أندرو ليستر.