صّة قصيرة من وحي ذلك الحفل الغنائيّ الذي سعدت المدينة باحتضانه
لم ينم الأستاذ ماجد تلك الليلة المشهودة في حياة هذه العاصمة المنكوبة ، والتي لم يكن ينقصها سوى ذلك الحفل الغنائيّ لذلك المطرب الوافد من أرض الكنانة ، جاهداً إلى حصد ثلاثة أرباع المليون من العملة الخضراء عدّا ونقداً ، فقد تسمّر طويلاً أمام شاشة التلفاز
المشغولة بنقل وقائع استقبال هذا الحدث العظيم، فقطّب جبينه مرّات ، وحكَّّ رأسه الفاقد ثلثي شعره ، وهو يرى ذلك الوزر وهو يخفّ مسرعاً إلى المطار الذي تلفّه العتمة الشديدة بفضل سوء إدارة زميله الوزير المتخصص في فنون التعتيم ، واستجرار الظلام
أجل ، إنّه يسارع لاستقبال ذلك البطل القوميّ القادم من أجل الترويح عن قسم من شعب يرزح تحت أزمات متوالدة لا تعدّ ولا تحصى ، ولكم كانت سعادته غامرةً ، وفرحته عظيمة ،وهو يهرول لمعانقته في صالون الشرف
القوى الأمنيّة منهمكة باتخاذ التدابير اللازمة حفاظاً على الأمن ، أمن ذلك الحفل الذي لم ينقصه سوى إعلان حال الطوارئ ، وبإصدار التعليمات الصارمة القاضية بعدم سلوك ذلك الطريق البحري المؤدي إلى ذلك المكان الذي التقمته حيتان البر من فم البحر؛ والذي أُعِدَّ جيّداً ليليقَ بقامةِ الضيف الاستثنائي
اللجنة المنظِّمة أصدرت الأوامر المشدّدة الموجّهة إلى الصحافة ، والقاضية بتوقيع تعهّدٍ بعدم نشر أيّ أخبار سلبيّة عن الحفل، والاقتصار على نشر الإيجابيّات فقط
ألله ! مَنْ أعلم هؤلاء المنظّمين بماسينشره الصحافيّيون ؟ ولِمَ يخافون، إن لم يكونوا فاعلين هذا في غير الزمان والمكان المناسبين؟
هذا ، فضلاً عن ذاك الطلب إلى الجمهور المشارك في الحفل بارتداء الثياب البيض، إشارةً واضحةً إلى السلام الذي يلفُّ أرجاءَ هذا البلد ، وإظهاراً لعدم نيّة أيّ واحد من الجمهور بالقيام بأيِّ اعتداء
المطرب الكبير جدّا لا يكاد يُرى، نظراً لازدياد عددالراقصات والراقصين المميّزين بشاراتٍ اجتماعيّةٍ مُخمليّة ،وبعضُهم كانوا مسؤولين في مواقع مهمّة
أصوات الطرب تخترق فضاء ذلك المرفأ المسكين ، وتصطدم بآخر ما تبقى من أهراءات القمح المتفحِّمة
عينا ماجد تتنقل بين الحفل الفريد الساهر في هذا الزمن العابر(هر) وتلك الحفّارة التي شرعت توّاً بالبحث عميقاً عن ذلك الذهب الأسود المستكين في أعماق البحر ، ورأسه يهتزّ يميناً ويساراً مثل مروحة هواء قديمة، وكفّاه ترسمان في الهواء المحمّل بعبق الشهوات ، شهوات المشاركين والمشاركات، خطوطاً بهلوانيّة غريبة
عند إشراقة الشمس السعيدة بأجواء
الطرب والفن والسرور سمع ماجد انتقاداً واحداً أشار فيه عمّال النظافة إلى الكميّات الهائلة من القاذورات والمخلّفات التي تزكم الأنوف ؛ أنّ مسؤوليّة إزالتها تقع على عاتق تلك اللجنة المنظّمة
خرج ماجد إلى حيث يركن سيارته المتوقِّفة منذ زمن بسبب نفاد الوقود، وأشياء أخرى لا تُذكر، لأنّها تكشف عجزه عن إصلاح ما يلزم فيها ؛ وهو الأستاذ الذي أفنى عمره في إعداد أجيال المستقبل الواعد، ولمّا علم بالوقائع المرّة أنّ معظم هؤلاء ينتظرون التخرّج بفارغ الصبر ، ليسارعوا إلى تقديم طلبات الهجرة إلى بلدان لم تتكلّف على تربيتهم وتعليمهم سنتاً واحداً، وكلّ ما تجود به عليهم هو “الفيزا”(فيا لله وللفيزا) ، فراراً من هذا الجحيم الذي لا يطاق ، شابَ ما بقي من شعر رأسه، وبكى بكاءً شديداً ( اللهُ وحده يعلم كم ذرف من الدمع الساخن حُزناً على هجرة هذه الطاقات الشابة الواعدة
بينما كان يجرّ تلك المحفظةَ القديمةَ التي أودعها ما بقي عنده من ثياب ، حانت منه التفاتة فوقعت عيناه على جاره الأستاذ مفيد الذي سبق وشغل وظيفة مهمّة قبل أن ترديه وطبقته المسماة الوسطى إلى الأرض طبقة من طينة منظمي ذاك الحفل الساهر فعاجله الأستاذ
– صباح الخير يا جار. خير إن شاء الله
-خير ! عن ايّ خير تسأل بعد؟ كأنّك غريب عن هذه الديار؟
شرع الأستاذ مفيد يحدّق إلى جاره صديق عمره ، وراعه ما رأى
كانت عينا الأستاذ ماجد جمرتين يحوطهما ظلُّ سوادٍ مقيم ، فهمس: “لعله لم ينم منذ دهر” ثمّ جهر
– إلى أين من غير شرّ
– أنت تعلم أنّنا تشبّثنا معاًبهذا التراب طويلاً، على الرغم مماكابدناه معاًمن حروبٍ وقصف ٍودمارٍ وتهجيرٍ ومآسٍ عديدة ، ومجازرٍ لا تعدّ، ولكن
– ولكن ماذا؟ أكمل من فضلك
– عندما يحصد مغنٍ ثلاثة أرباع المليون من العملة الخضراء في ساعتين ، والأستاذ يتقاضى ستين سنتاً عن الساعة، والضابط أو العسكري يتلقى كلّ واحد منهما إعانات تعينه على تامين بعض حاجيّاته إلى آخر الشهر، وعندما يفرض وزير من خارج حدود هذا التراب على نواب الأمّة أسئلة ، ويطلب أجوبة عنها ،وعندنا ينتخبُ الشعب نوابَه ليسعوا إلى تغيير الحال، فيسارع هؤلاء إلى تغيير الفطرة وتبديل خلق الله،عبر توقيعهم مشروعَ قرارٍ يقضي بتشريعِ الشذوذِ الجِنسي والمِثليّة ، وعندما تخرج مُمَثِّلتا دولتين كبريين عن الحدود الدبلوماسيّة المتعارَفِ عليها بين الدول المستقلة، فتُمليانِ على مسؤولينا الإملاءات ، وعندما يهرول وزير لاستقبال مطرب ، وعندما يرقص قاض على انقاض كارثة وطنيّة ، ويخطف أنظار المعجبات والمعجبين، فاعلم أنّ العيش في أيّ مكان سيّئ في هذا العالم أهون
هل تطلب المزيد بعد؟
– لحظة من فضلك
– خير إن شاء الله
– على خيرة الله ، انتظرني، فثيابي قليلة ، سأكون شريكَك في هذه الهجرة المطلوبة ، فمثل هذه الأرض لم تعد مكاناً صالحاً للسكن، فبعد الحفل ليس كما قبله
راحا يرنوان طويلان إلى هذه البيوت التي لحق الذلّ بأهلها بعد عزّ، في وطن نال فيه المطربون وغيرهم العزّ والرخاء،في زمن انحدر فيه أبناء تلك الطبقة الوسطى، ولمّا شعر ماجد بالخشية من ضعفٍ قد يعتريه جرّاءَ هذا الِانسلاخ ِعن رَحِم أرضٍ أحبّها، مسح دموعَ الوداعِ المُرِّ وأمسك يد جاره وقال
-إنّه الزمن المرذول يا صاح تعال ،ونرجو الله أن ييسر لنا عودة قريبة وعزيزة
قال ذلك ، ثمّ غذّا السير إلى مصيرٍ مجهول ٍ يسعيان فيه إلى الاحتفاظ بالكرامة وبالحرية المطلوبتين لحياة الأحرار في هذا العالم الغادروالمقيتِ والسقيمِ في آن
قبريخا -جبل عامل