اختتم يوم الأحد في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، أعمال الجلسة الثالثة والختامية من الملتقى الدولي الثالث الذي نظّمته غرفة 19 – سان دييغو كاليفورنيا، بالتعاون مع معهد الآداب الشرقيّة في جامعة القديس يوسف – بيروت، والأكاديمية المغربية للبحث الفلسفي العبر-مناهجي، تحت عنوان: “نظريّات ومناهج النقد التاريخي في القضايا الثقافية: أسئلة المنهج، وتحوّلات الوعي.”
وقد شكّل هذا اليوم مسك الختام لمسارٍ علميّ امتدّ على ثلاثة أيام، تميّزت بغنى الأسئلة وعمق المقاربات وتعدّد زوايا النظر في قضايا التاريخ والنقد والمناهج والوعي الثقافي. وفي الجلسة الختامية، اجتمعت رؤى متعددة من لبنان وسوريا والعراق والسودان والمغرب، لتفتح أمامنا أفقًا فكريًا جديدًا حول مستقبل التاريخ في زمن التحوّلات الرقمية، وما يفرضه الذكاء الاصطناعي من إعادة نظر في موقع المؤرّخ ووظيفته وفي بنية السردية التاريخية نفسها.
وقد تناولت المداخلات اليوم موضوعات متنوّعة، شكّلت لوحة متكاملة تلاقت في جوهرها عند سؤالٍ واحدٍ كبير: كيف نعيد التفكير في التاريخ ووعينا به، في عالم تتغيّر فيه الأدوات، وتتبدّل فيه طرق إنتاج المعرفة، وتتسارع فيه التحوّلات التي تفرضها التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؟
ولعلّ النقاش الذي تلا كل جلسة، وما طُرح فيه من أسئلة وتفاعلات، قد عمّق هذا السؤال، وأعاد التأكيد على دور البحث العلمي في إعادة صوغ علاقتنا بتاريخنا وهويتنا الثقافية.
وعلى مدى ثلاثة أيام الجمعة والسبت والأحد، 21 و22 و23 تشرين الثاني/نوفمبر 2025
اجتمع في هذا الملتقى نخبة من الباحثين والباحثات من أكثر من عشر دولٍ مختلفة، ليقدّموا رؤاهم المتنوّعة حول قضايا النقد التاريخي وتحولاته في الحقول الثقافية والأدبية والفكرية.
تناولت البحوث المقدَّمة موضوعاتٍ ثريّة تمتدّ من الأسطورة والتأريخ بطرق جديدة، والنقد التاريخي والدراسات الثقافية، والتاريخ كخبرة مستقبلية، إلى الذكاء الاصطناعي وكتابة التاريخ، والوعي التاريخي في الرواية العربية الحديثة، وإنتاج المعنى في ضوء المناهج التأويلية، مرورًا بموضوعات الكتابة والمنفى، والإبداع الثقافي المهاجر، والنصوص الشفاهية، والتراث الثقافي المهاجر، وغيرها من المقاربات التي تكشف ثراء الفكر النقدي المعاصر وتنوّع مساراته.
إنّ هذا الملتقى لا يُقام ليخاطب الأكاديميين وحدهم، بل ليجعل الجمهور شريكًا أصيلًا في الفعل الثقافي، لا متلقيًا سلبيًا. فغايتنا أن ننزل بالثقافة والعلم من المدرّج الجامعي إلى فضاء الناس، حيث يصغي الباحث إلى الحضور كما يصغون إليه، وحيث تتحوّل الجلسات إلى مساحة حوار وتبادل معرفي حيّ. وإلى إثراء المسار العلمي بالنبض الثقافي، وإخراج المعرفة من جدران القاعات الدراسية إلى فضاءات التفاعل الحيّ مع قضايا الإنسان والواقع
فنحن نؤمن بأنّ الثقافة لا تزدهر إلا حين تلتقي الجامعة بالجمهور، حيث يصبح جزءًا من حركة التفكير النقدي، ومساهمًا في إنتاج الوعي وصياغة الأسئلة الجديدة. ولعلّ هذا ما حلم به المفكّرون منذ القرن التاسع عشر: أن تكون المدرسة والجامعة امتدادًا للحياة، لا انقطاعًا عنها.
قدّم الباحثون من عشر بلدان عربيّة مختلفة: لبنان وسوريا والعراق والسودان والمغرب، الجزائر الامارات، الأردن اليمن، ومصر، قراءات جديدة للتاريخ، ومنهجه، وسرده، وثقافته، وأبعاده الفلسفية، وأدواره في زمن التحوّلات الكبرى؛ فكان الملتقى مساحةً معرفيّة واسعة للحوار وتقاطعات المناهج، ومسارًا نقديًّا ثريًّا أصبح اليوم وثيقةً بحثيّة في الذاكرة الثقافيّة. بانوراما متكاملة تجمع بين الأسطورة والرواية والتاريخ والتأويل، وتظهر الدينامية المتجددة للخطاب الثقافي.
نظريّات ومناهج النقد التاريخي في القضايا الثقافية: أسئلة المنهج، وتحوّلات الوعي، أهداف الملتقى تناولت مواضيع الساعة، في زمنٍ تتسارع فيه التحوّلات التكنولوجية والثقافية على نحو غير مسبوق، تعود الأسئلة القديمة لتُطرح من جديد، ولكن بصيغٍ أشدّ إلحاحًا وأكثر تعقيدًا: كيف نقرأ التاريخ اليوم؟ من يكتبه؟ ومن يملك شرعيّة نقده؟ وهل ما زالت أدوات النقد التاريخي التقليدية قادرة على تفكيك تحوّلات الوعي والإبداع في عالمٍ بات الذكاء الاصطناعي فيه شريكًا في إنتاج المعرفة؟ يأتي الملتقى الدولي الثالث – غرفة 19، والمنعقد عن بعد عبر تطبيق زوم، ليضيء هذه الأسئلة من زوايا متعدّدة، مستعرضًا نظريّات ومناهج النقد التاريخي في القضايا الثقافية: أسئلة المنهج، وتحوّلات الوعي. وسيناقش الملتقى محاور رئيسية، يتفرّع عنها العديد من الإشكالات الراهنة، حدود النقد التاريخي بين الماضي والحاضر.، صلاحية المناهج القديمة في فهم تحوّلات الإبداع المعاصر. أثر الذكاء الاصطناعي على دور الكاتب والقارئ والمؤرّخ. تحوّل الطالب والباحث من موقع المتلقّي إلى موقع الشريك في صناعة المعرفة. بهذا، يسعى الملتقى إلى بلورة رؤى نقدية متجدّدة، تُعيد التفكير في موقع التاريخ داخل الثقافة، وتختبر جدوى المناهج في قراءة حاضرٍ متغيّر، حيث يلتقي النص بالآلة، والذاكرة بالابتكار، والوعي بالتحوّل المستمر. في هذا الملتقى، سنحاول مقاربة تلك الأسئلة ضمن أربعة محاور أساسية، بالإضافة إلى استعراض الإشكالات المتفرّعة منها

أولًا: اليوم الأوّل – الجمعة 21/11/2025
الندوة الأولى: الهجرة
وقد تناولت هذه الندوة قضايا الهوية والتحوّل والسرديات العابرة للحدود، بمداخلات توزعت بين الثقافة السياسية، والهجرة، والسرد النسوي، والنص الشفاهي، وسردية العوام، وتقييم الإبداع الشفاهي. شارك فيها:
- أ. د. عبد القادر فيدوح – الجزائر
تماثل التاريخانية الجديدة والثقافة السياسية في الرواية. - د. إسحق علي محمد إبراهيم – السودان
الإبداع الثقافي المهاجر: تقاطعات التاريخ والهوية في سرديات نسوية سودانية. - أ. د. درّية فرحات – لبنان
النص الشفاهي بين التهميش والتقويم: نحو معايير نقدية منصفة. - د. صالح شُكاك – المغرب
سردية العوامّ في التأريخ للوقائع والأعلام. - د. إنعام القيسي – الأردن
تقييم الأعمال الإبداعية الشفاهية: قراءة في الأسس والمعايير.
وقد عبّر هذا اليوم عن أهمية الهجرة كظاهرة ثقافية وتاريخية تُعيد تشكيل الوعي والهويّة، وتفتح المجال لقراءة جديدة للسرديات المعاصرة.
ثانيًا: اليوم الثاني – السبت 22/11/2025
الندوة الأولى: الأسطورة وإعادة إنتاج التاريخ
وقد وُجّهت نحو تفكيك العلاقة بين الأسطورة والتاريخ، والإضاءة على قدرتها في إعادة صياغة الوعي الجمعي:
- د. حنا نعيم حنا – مصر
المنهج العلمي وإحياء صورة الحياة اليومية والخيال الخرافي: منهج إعادة البناء التاريخي (د. عبد العزيز مسلم نموذجًا). - د. إدريس الهاني – المغرب
الأسطورة أو التاريخ بطريقة أخرى. - د. جورج إبراهيم فارس – لبنان
الأسطورة قصة رمزية وحقيقة حيّة.
الندوة الثانية: الرواية والتاريخ
وفيها ظهرت مقاربات تركيبية بين خطاب الرواية والخطاب التاريخي:
- د. سلمى عطالله – لبنان
الخطاب التاريخي وتأثيره في الرواية اللبنانية (“الجبل الصغير” نموذجًا). - الطالب كريم عنداري – لبنان
الرواية التاريخية كخطاب مضاد للتاريخ (رواية “قلب الرجل” نموذجًا). - الطالبة رانيا هاني – لبنان
“قلب الرجل”: الهوية والانتماء – مقاربة سيميائية في ضوء غريماس. - د. مريم الهاشمي – الإمارات
الوعي التاريخي والتخيّلي: مقاربة تاريخية في الرواية العربية الجديدة.
الندوة الثالثة: التاريخ والأدب والتأويل
- أ. د. قاسم الحبشي – اليمن
النقد التاريخي والدراسات الثقافية. - أ. د. محمد الحوراني – الأردن
نظرية العصور الأدبية في ضوء المنهج التاريخي عند العرب. - فقد قدّمت الدكتورتان دورين نصر وماريا نصر مقاربة رائدة حول الذكاء الاصطناعي وكتابة التاريخ، وتحول دور المؤرخ في ظل الروايات الرقمية، مطرحتين سؤالًا مركزيًا: هل للذكاء الاصطناعي تاريخ لذاته؟ وهو سؤال فتح نقاشًا أعمق حول جذور الذكاء الاصطناعي ومساره العلمي والفلسفي منذ منتصف القرن العشرين وصولًا إلى لحظتنا الراهنة.
- أما الدكتورة عبير خالد يحيى فقد قاربت النظرية التاريخية من زاوية المنهج الذرائعي، واضعةً العلاقة بين الماضي والمعنى في مواجهة تحدّيات الذكاء الاصطناعي، حيث يتحول الوعي من استحضار الماضي إلى تفعيل دلالاته تداوليًا في الحاضر.
- وطرح الأستاذ الدكتور محمد عبد الرضا شيّاع سؤال العلاقة بين النقد التاريخي وإنتاج المعنى، مؤكدًا الحاجة إلى منهج تأويلي قادر على قراءة الذاكرة الثقافية بما يتجاوز حدود السرد التقليدي.
- من جهته، عالج الدكتور مالك المهدي جدلية التاريخ والمستقبل، مناقشًا ما إذا كانت هذه الجدلية مجرد لعبة فكرية أم أنها تنتج فعلًا أدوات معرفية يمكن الاستفادة منها في بناء المستقبل. وقد بدا واضحًا أن التاريخ، بما يحمله من دروس وأنماط وتحوّلات، ليس مجرد سجلّ للماضي، بل هو رصيد معرفي يوجّه الممكنات المستقبلية.
- أما الدكتور عثمان حسن عثمان فقد وسّع أفق النقاش من خلال اعتباره التاريخ خبرة مستقبلية لا مجرد ماضٍ منفصل، مؤكدًا أن التاريخ ليس ما وقع، بل ما نعيد تأويله تحت ضوء الحاضر وضرورات التجاوز إلى القادم.
- واختتم الدكتور حسن أوزال بمداخلة فلسفية عميقة حول حاجة التاريخ إلى اللاتاريخي وما فوق التاريخي، مشيرًا إلى أن الثقافة حين تعلو على الحياة تتحوّل من طاقة للخلق إلى سلطة تُقنّن الوجود. وفي زمن الرقمية، حيث الذاكرة محفوظة بلا نسيان، يصبح الإنسان أحوج إلى ثقافة تُنعش الحياة بدل أن تخنقها.
حظي الملتقى بتفاعل واسع وإشادات متعددة ركّزت على:

- جودة التنظيم ورئاسة الجلسات.
- عمق البحوث واتساقها مع عنوان الملتقى.
- حضور قامات معرفية متميّزة ونقاشات علمية عالية المستوى.
- ثراء المداخلات وإسهامها في تجديد الأسئلة المنهجية.
- الدور الريادي لغرفة 19 برئاسة الأديبة إخلاص فرنسيس في تعزيز الانفتاح الثقافي والمعرفي عربيًا.
- المشاركة اللافتة للطلاب والباحثين الشباب.
- وصف الملتقى بأنه “رحلة علمية دسمة وممتعة”، و“مؤتمر دولي رفيع المستوى”.
- أهمية تبسيط بعض المداخلات دون الإخلال بعمقها لضمان انسيابية المعرفة.
كما عبّر عدد من المتابعين عن رغبتهم في المشاركة المقبلة بورقات بحثية، وعن تقديرهم للدور التنظيمي والإعلامي المتميز للغرفة 19.أظهر الملتقى الدولي الثالث أن التاريخ لم يعد مجرد علم للماضي، بل هو علم للإنسان وهو يعيد تأويل ذاته في ظل التحوّلات الرقمية والذكاء الاصطناعي. وقد شكّل هذا الملتقى مساحة معرفية نوعية للحوار وتقاطعات المناهج، وأسهم في فتح آفاق جديدة للنقد التاريخي والثقافي، وترسيخ التعاون بين المؤسسات الأكاديمية العربية.
وفي الختام، توجهت الأديبة إخلاص فرنسيس مؤسسة ورئيسة تحرير الغرفة 19 بالشكر إلى الجهات التي المشاركة، معهد الآداب الشرقيّة في جامعة القديس يوسف – بيروت، متمثلة بالدكتور طوني قهوجي مدير المعهد، والأكاديمية المغربية للبحث الفلسفي العبر-مناهجي، متمثلا بالدكتور إدريس الهاني، وإلى الأساتذة المشاركين، وإلى الحضور الكريم، وإلى المنظِّمين والشركاء الأكاديميين، وإلى د. دورين نصر المستشارة الاكاديمية للغرفة ١٩ في لبنان، وإلى المنسق العلمي لغرفة 19، الدكتور حنا نعيم حنا. منوهة في كلمتها، بإنّ ما حمله هذا الملتقى من رؤى ومنهجيات وأسئلة يؤكد أن التاريخ ليس علم الماضي، بل علم الإنسان وهو يعيد فهم نفسه في الزمن؛ وأن الوعي التاريخي، في زمن الذكاء الاصطناعي، يدخل مرحلة جديدة تحتاج إلى إعادة نظر وإعادة ابتكار. وبذلك نعلن اختتام أعمال هذا الملتقى، على أمل اللقاء في محطات أكاديمية جديدة تُعمّق أسئلة الفكر، وتوسّع فضاءات النقد، وتُسهم في بناء وعي ثقافي يليق بتحوّلات عالمنا المعاصر.




