
حين تخصَّ شخصاً بالكتابة إليه رسالة تكون قد اصطفيته من بين كثيرين، لتعبّر له عن مكنون نفسك. وهذا الانتخاب آتٍ من الشعور بأنّ ثمّة مساحة مشتركة بينك وبين هذا الشخص من بين الناس الكثر الذين تعرفهم، وأنّ لديك ما تقوله له، ولديك، إلى ذلك، ثقة في أنّه سيفهم هذا القول.
بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين عاش الشاعر ريلكه، والذي عرفناه في العربية، بصورة خاصة، من خلال كتابه المترجم “رسائل إلى شاعر شاب”.
لكننا نقع في الترجمة لكتابه الآخر: “الوصيّة “التي وضعها شربل داغر وصدرت عن “دار الجمل” على الجانب الأشدّ خصوصية وحميمية في حياة هذا الشاعر من خلال مراسلاته مع شاعرة روسية جمع بينهما مثلث صداقة مشتركة، كان ضلعه الثالث بوريس باسترناك الأديب الروسي الذي فاز بنوبل للآداب عن عمله الشهير “الدكتور جيفاكو” الذي خلّدته السينما العالمية.
العلاقة التي ابتدأت على شكل صداقة بين ريلكه وما رينا تزفيتاييفا سرعان ما تحولت إلى حبّ جارف، كما تظهر تلك الرسائل التي اختار شربل داغر بعضا منها ليترجمها عن الفرنسية. وفي واحدةٍ من هذه الرسائل تبدأ بمخاطبته باسمه كاملا : “راينر ماريا ريلكه”!، قبل أن تشرح له لماذا تفعل ذلك: “تعرف من دون شك، وأنت الشعر مجسداً في رجل، أن اسمك وحده قصيدة “.
ثم تضيف: “انتظر كتبك مثل عاصفة لن تلبث أن تنفجر. كلّ قصيدة منك تخطف القلب وتنزل فيه معرفتها. ما انتظره منك يا راينر؟ لا شيء، كلّ شيء! أن تسمح لي في كل لحظة في حياتي بأن أرفع عيني صوبك، كما إلى جبلٍ يحميني، إلى ملاك حارس من حجر. كان هذا ممكنا قبل معرفتي بك، أما الآن فيحتاج الأمر إلى إذن، ذلك أنّ روحي قد ارتفعت”.
ونختم بهذه العبارة المدهشة: “قرأتُ رسالتك على ضفّة المحيط، وكان المحيط يقرأ معي، كنّا نقرأ معاً، لكنّي أعدك: لن يكون هناك قارئ غيره، فأنا غيورة عليك جداً، لا بل ومتوقدة”.
على هذا المقطع بالذات ردّ ريلكه قائلاً: “أشعر كما لو أنّ صديقك الكبير، المحيط، هرع صوبي معك، موجاً في القلب. أنزلتِ يديكِ، يا مارينا، في قلبي كما في حوض نهر متدفق، والآن سيبقى المجرى المستديم جارياً صوبك”.