نبدأ الحديث بسؤال : هل التراث ماضٍ مضى وانتهى ، أم هو خبرة تستبق ما هو آت ؟ ، السؤال بسيطٌ في ظاهره ، لكن الجوهر يلامس أعماق التفكير ، فهو يربط علاقة الإنسان بالزمن والمكان ، فالتراث ليس مجرد مظاهر وحكايا وأحداث عن الآباء والأجداد ، ولا تراكمات أشياء مادية ومعنوية جاءت من الماضي ، التراث في عمقه وعيٌ زمنيٌّ متجدد ، يشكّل الحاضر الذي نعيشه ، ويُوجّهنا إلى المستقبل من خلال الإرتكاز على خبرة الماضي .
ومن الخطأ الفادح أن ننظر إلى التراث ككتلة زمنية مغلقة انقضت وانتهت ، لأن ما انتهى في الزمن او الوقت لا ينتهي في الوعي ، كما أن كلَّ ما نعيشه اليوم هو في الحقيقة إعادة ترتيب لما عاشه الآباء والأجداد من قبلنا ، فالأفكار ، والأحداث ، والشعر ، والحكايا ، وحتى الأحلام هي امتدادات لتجارب من قبلنا أعادت تشكيل نفسها في صور جديدة في موروثنا ووعينا ، ومن هنا يصبح التراث ليس ما جرى ، بل ما يترك في الوعي من أثر جرَّاء ما كان .
حين ننظر إلى التراث كـ”ماضٍ منفصل”، فإننا نحكم على أنفسنا بالعيش في حاضر مبتور من جذوره ، وحين نقرأه كخبرة مستقبلية وهوية ، فإننا نمنحه القدرة على إضاءة الطريق إلى المستقبل ، فالماضي الذي يُفهم يكون قاعدة صلبة ، ويشكل وعياً عميقا من الأحداث السابقة ، وليس علينا أن نتقمصه حرفيًا ، بل نغربله في منظور حداثي ضمن بصمة في الوعي الجمعي ، وترسيخه كأنماط في التفكير والسلوك ضمن إطار هوية شعبية .

إن الأمم التي جعلت من تراثها مختبراً للتجربة استطاعت أن تتقدّم في منهج متزن ، فالتراث في جوهره ليس أداة تقديس الماضي ، إنما هو وسيلة لفهم آلية التحوّل والتقدم ، وحين يُقرأ بهذه الطريقة يتحول إلى خبرة مستقبلية ، وطاقة معرفية تمكّننا من التنبؤ بالأحداث ، واستشراف ما قد يحدث ، لأننا نكون قد فهمنا ما حدث ولماذا حدث وبذلك نصنع في كل لحظة تاريخًا جديدًا .
والفرق بين الوعي المتقدّم والوعي الجامد ؛ هو أن الأول يدرك أن التراث عملية حية متجددة ، ولا تنتهي إلا بانتهاء الإنسان نفسه ، فكل قرار سياسي حقيقي ، وكل تحوّل اجتماعي طبيعي ، وكل عمل إبداعي متميز ، هو فصلٌ جديد يرتكز على أساس الماضي ، يعيد ترتيب الاحداث والأفكار في صورة مستقبل مشرق .
لذلك فإن مقولة ؛ « إن التراث هو تراكم أحداث وأدوات » ، تبسيط سطحي لا يليق ، لأن التراث له أبعاد أوسع وأكثر غوراً وعمقاً ، فالأحداث والأشياء لا تصنع التراث إلا حين تُفهم وتدرس وتُحوَّل إلى معرفة ، أما ما لم يُفهم ، فيظل كومة من “وقائع” تتراكم بلا دلالة لحين الوصول إلى فك أُحجيتها.
إن التراث الحقيقي إذن هو أحداث ومفاهيم صَقلت الوعي ، وليست أحداث ووقائع مجردة دون أثر ، ولهذا فحين نتحدث عن التراث بشقيه ، المعنوي والمادي ، كخبرة مستقبلية ، فإننا نعيد تعريفها وصياغة مفهومها ؛ الماضي في جوهره زمن لم يكتمل ، لأن معناه يتشكل باستمرار في كل قراءة جديدة ، وكل جيل يعيد صياغة ماضيه بحسب موقعه من العالم ومفهومه للحياة الانسانية ، فإما أن يجعله حكاية تأسيس وانطلاق ، او أن يتركه جُرحاً مفتوحاً ، أو قد يكون مرآة يرى فيها ملامح الغد .
إن أخطر ما يمكن أن نفعله هو أن نفصل التراث عن الحداثة ، فمن يظن أن التراث ماضٍ منتهي ، يبدأ مجتمعه بالانحدار ، ومن يدرك أنَّ التراث أحداث ووقائع تتجدد في كل جيل من خلال بناء الوعي الفكري ، يكون هذا التراث جزءاً من استمراريته المجتمعية الخلّاقة.
التراث إذن ليس صفحة تطوى ، بل هو وعيٌ يتجدد مع كل جيل ، هو مرآة نرى فيها كيف كنّا وكيف عشنا والأباء والأجداد ، وكيف يمكن أن نكون ، فالتراث هو خلاصة التجربة المجتمعية في صراعها مع الأحداث ، وخبرتنا الكبرى في صناعة الحداثة من بين ركام الأحداث.

( عماد عواودة ، ابو حازم
الجمعة ١٤ نوفمبر ٢٠٢٥ ، قميم / الأردن )