ماري القصّيفي
لا بدّ أنّ في حياة “الأمير الصغير” جانبًا أسود لم يستطع “أنطوان دو سان إكزبوري” أن يكشف عنه. لا يعقل أن تكون الحكاية على مثل هذه البراءة والشفافيّة، لا يعقل أن تكون الأمور على هذه الصورة من الخيال والجمال والسحر والصداقة (حتّى مع ثعلب). لا شكّ في أنّ ثمّة ما لم يقل بعد عن حكاية أميرنا الصغير
ماذا لو كان للأمير أخوان شريران كما كانت لسندريلاّ أختان شريرتان؟ ماذا لو كان أحدهما فاسقًا اغتصب خادمة الجيران وهرب إلى كوكب صار فيه ملكًا لا يعرف إلاّ إصدار الأوامر ويريد أن تطيعه النجوم حتّى انتهى به الأمر وحيدًا في جوّ سلطة بارد، والآخر مدمن كحول يعيش على كوكب آخر خجلاً من نظرات الناس؟ ماذا لو تخلّص منه والده كما حصل مع “عقدة الإصبع” وبقي الصغير صغيرًا تائهًا بين الكواكب والنجوم؟ ماذا لو كان الأمير الصغير مريضًا نفسيًّا يخاطب نفسه من شدّة الشعور بالوحدة والاضطهاد؟
ماذا لو؟
لكلّ حكاية جزء ضائع في ثنايا الذاكرة أو تحت أغطية التعتيم السميكة. جزء لا يريد أحد الكشف عنه كي لا تصير الحكاية مصدر خوف ورعب يخاف الناس بعد الاستماع إليها من النوم على مخدّة الحكايات الجميلة. وفي هذا الجزء بالذات تكمن معضلة البشريّة الكبرى حيث يكشف الإنسان عن أبشع ما فيه.
الشعور بتقدّم العمر يبدأ هنا، حين نكتشف أنّ الحكايات ليست جميلة كما صوّرتها لنا جدّاتنا يوم كانت الجدّات يجدن الوقت لمجالسة أحفادهنّ عوض لعب الورق مع الجيران أو متابعة البرامج المدبلجة أو السهر في المرابع الليليّة. نكبر حين نعرف في لحظة من العمر أنّ الأمير الذي أنقذ الأميرة من النوم أوقعها في الضجر، وأنّ الصبيّ الضائع في الغابة كبر وأصبح الذئب الذي يعترض طريق الفتيات الصغيرات، وأنّ الجميلة التي خطفها الوحش لم تستطع بالحبّ وحده أن تعالج أمراض طفولته، وكانت في حاجة إلى مساعدة طبيّة خبيرة. وأنّ الأميرة الأسيرة في البرج فقدت شعرها الذهبيّ من آثار الانهيار العصبيّ وجنون الوحدة ورهاب الأمكنة المرتفعة. في هذه اللحظة بالذات نستيقظ على صوت الأقنعة الحديديّة وهي تقع على الأرض وتحدث دويًّا هائلاً ترتجّ له السماء، ويغزو الشيب روحنا، وتتجعّد الكلمات في أقلامنا، ونغرق في هدير الصمت
في البدء كانت الحكاية. وفي النهاية ليست الحكاية سوى طريقة الراوي في “الحكي” ورؤية العالم والحياة والناس. ولذلك تتغيّر الحكاية في كلّ مرّة تروى فيها وكأنّها ترتوي كلّ مرّة من ذاكرة لا تنضب
حين ارتفع الكاتب “أنطوان دو سان إكزبوري” في طائرته التقى بأميره الصغير على كوكب غريب فيه زهرة متفتّحة، وحين غرقت طائرته في البحر التقى به من جديد في العمق الغامض. وهناك، في عتمة اللجّة اكتشف الكاتب أنّه لم يكتب الحكاية كاملة، وأنّ الوجه الآخر من حياة أيّ كان لا يظهر إلاّ بعد أن يصير هذا الذي كان في الجانب الآخر من الحياة. حين التقى الكاتب بأميره ذي الشعر الأشعث والرداء الطويل بكى، فازداد البحر ماء وملحًا، غير أنّ أحدًا لم ينتبه. بكى لأنّه وجد الجزء الضائع من الحكاية ولكن لم يعد في استطاعته أن يكتبها لأنّ البحر يبتلع الأصوات والكلمات والحكايات كما يبتلع حطام السفن والطائرات. بكى لأنّه رأى في العتمة ما لم يره في الضوء، لأنّه كان يملك الجزء الآخر من الحكاية ولكنّه أخفاها في مكان دفين من ذاته ونسيها هناك إلى حين غسل البحر روحه
يوم ترجمت حكاية الأمير الصغير إلى لغة غريبة (*) تستخدمها قبيلة تعيش في مجاهل الغابات الأفريقيّة (أفريقيا نفسها التي سقط في صحرائها الأمير)، وقرأها طفل من عمر بطل الحكاية قال إنّ الحكاية ناقصة، وإنّه يعرف الجزء الضائع، غير أنّه كان يتكلّم بلغة غريبة لا يعرفها العالم فلم يفهم عليه أحد خارج حدود الغابة. غير أنّ الصبيّ أخذ كلّ ليلة يروي لأبناء قبيلته ما لم يرد في الكتاب وما لا يعرفه أحد غيره. وكان الجميع يصغي في حزن وأسى لأنّ الأمير الصغير صار واحدًا منهم
* ترجم هذا الكتاب إلى نحو 160 لغة، بعضها لهجات محليّة