
الباحثة : كريمة كاظم السعدي
عراقية مقيمة بالإمارات
المقدّمة
تعتبر الذاكرة الثقافية هي بمثابة الرصيد لكل الأمم من الحكايات الشعبية، والأمثال، والأهازيج، والموّالات، والإنشاد، والطقوس، ولهجات الكلام اليومي. هذه الذاكرة غالبًا ما تكون شفهية؛ تنتقل بين الأجيال بالإنصات والمحاكاة، لكنها تتعرض للاندثار بفعل عوامل الهجرة، والعولمة، وضعف التدوين، وتحوّل أنماط العيش والإعلام.
كما إن الذاكرة الثقافية للأمم تعتبر ركيزة أساسية في تشكيل الهوية الجماعية وبناء الوعي التاريخي والاجتماعي للشعوب، فهي تختزن القصص الشعبية، الأمثال، الأغاني التقليدية، الحكايات الشفوية، الطقوس، والممارسات اليومية التي تنتقل عبر الأجيال لتصوغ ملامح المجتمع وتمنحه خصوصيته الحضارية.
ومن هنا يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة واعدة لإعادة تعريف العلاقة بين التكنولوجيا والتراث. فالأنظمة الذكية قادرة على جمع وتصنيف وتحليل كميات هائلة من البيانات الثقافية، وتحويلها من مجرد روايات شفهية أو مواد متفرقة إلى أرشيف رقمي منظم يتيح للأجيال الحالية والقادمة الاطلاع عليه. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهم في إعادة إنتاج هذا التراث بطرق مبتكرة، مثل محاكاة اللهجات المحلية، توليد نصوص شعرية أو غنائية مستوحاة من الأشكال التقليدية، أو إعادة بناء القصص الشعبية بصيغة تفاعلية تناسب المنصات الرقمية الحديثة.

وهناك العديد من التطبيقات و تجارب متعددة حول العالم ، ومنها :
- في المغرب، حيث جرى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لحفظ الطرب الأندلسي من خلال رقمنة المقطوعات القديمة وتحليل أنماطها الموسيقية لتدريب أنظمة قادرة على إعادة إنتاجها بدقة.

- في دولة الإمارات، حيث تم تطوير مشاريع تهدف إلى جمع الأمثال الشعبية باللهجات المحلية وتحويلها إلى قاعدة بيانات قابلة للبحث، بما يضمن عدم ضياع هذا الموروث اللساني.

- في كندا، قامت بعض الجامعات بتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوثيق التراث الشفهي للسكان الأصليين عبر تسجيل القصص بلغاتهم الأم وإعادة تقديمها للأجيال الصاعدة بشكل تفاعلي.

وبهذا يمكن القول : إن الجمع بين الذكاء الاصطناعي والتراث الثقافي لا يمثل مجرد حفظ آلي للماضي، بل هو مشروع إحياء للهوية وضمان لاستمرارية التنوع الثقافي في عالم يتجه نحو التجانس، لكن هذا التوجه يطرح تحديات أخلاقية ومعرفية، مثل كيفية ضمان أصالة المحتوى الذي يعاد إنتاجه، ومن يملك حق التحكم في هذا الأرشيف الرقمي، وكيفية الموازنة بين حماية الملكية الثقافية والانفتاح على الاستخدام المشترك.
لذا؛ يصبح موضوع “الذاكرة الثقافية للأمم والذكاء الاصطناعي“ مدخلًا مهمًا لفهم كيف يمكن للتكنولوجيا أن تتحول من عامل تهديد للتراث إلى أداة لحمايته وتجديده، عبر توظيفها بشكل مدروس يراعي الخصوصية الثقافية والاعتبارات الأخلاقية في كل مجتمع حسب عاداته وتقاليده ولغته وتراثه ليبقى خالدا على مر العصور.
هنا يبرز دور الذكاء الاصطناعي (AI) كأداة مزدوجة في حفظ التراث للأمم وإنتاجه ، ويتمثل :
- أداة حفظ: من خلال الرقمنة الصوتية، والتعرّف الآلي على الكلام (ASR) للهجات والألسن المهدّدة، والتصنيف الدلالي للحكايات والأغاني، وبناء معاجم وخرائط لهجات قابلة للبحث ، مما يؤدي إلى حفظه وإنتاجه فيما بعد.
- أداة إحياء وإعادة إنتاج: من خلال النمذجة التوليدية (Generative AI) حيث يمكن من إعادة تركيب الألحان والأنماط الشعرية، والمحاكاة الصوتية (TTS/Voice Cloning) للأداء الشفهي، وتوليد تجارب تفاعلية تعليمية تعيد التراث إلى المدارس والمتاحف والمنصّات.
لكن هذا الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في حفظ تراث الأمم وإنتاجه مما يفتح أسئلة أخلاقية وقانونية: من هو المالك لهذه المادة الشفوية؟ كيف نضمن موافقة المجتمعات المحلّية؟ ما هي حدود التوليد الإبداعي كي لا يُمسخ الأصل؟ وكيف نقيس الأصالة وجودة الحفظ؟

- هناك عدة أمثلة واقعية نذكر منها :
- أرشفة الأغاني والمواويل: هناك مبادرات محليّة في العالم العربي سجّلت المالوف والملحون في المغرب وتونس والجزائر، والموّال والعتابة والمقامات في العراق وبلاد الشام، ثم استخدمت خوارزميات لاستخراج البِنى اللحنية والإيقاعية وفهرستها بأوصاف قابلة للبحث (المقام/الإيقاع/المناسبة).
- التعرّف على اللهجات: مشاريع أكاديمية ومجتمعية تبني نماذج ASR للهجات العربية (العراقيّة، الشاميّة، المغاربيّة، والخليجية) اعتمادًا على تسجيلات ميدانية، مع تفريغٍ نصيّ وترجمة وتعليقات سياقية (المثل، المناسبة، الخلفية الاجتماعية).
- تعليم تفاعلي في المتاحف: هناك العديد من التجارب واقع معزّز (AR) تُمكّن الزائر من سماع النسخة الشفوية لأمثال أو حكايات قديمة مرتبطة بالمجسمات والقطع التراثية، مع خرائط تُظهر انتشار القول وتحولاته عبر المدن والقرى.

- منصّات قصص الأطفال من خلال: استخدام نماذج توليد عربية لإعادة سرد الحكاية الشعبية بصيغ تناسب الطفل المعاصر، مع الحفاظ على روح الحكاية (الشخصيات، العبرة، البنية السردية)، وإتاحة النسخ الصوتية بلهجات محلية.
- أهم مخاطر استخدام الذكاء الاصطناعي في حفظ وإعادة إنتاج التراث الثقافي:
- بالرغم من إن الذكاء الاصطناعي قدار على حفظ التراث وإنتاجه ليبقى خالدا على مر العصور في المستقبل ، لكنه لا يخلو من المخاطر العديدة ، ومنها:
- فقدان الأصالة الثقافية

من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي لإعادة إنتاج التراث، ربما يحدث تغيير في النصوص أو الموسيقى أو اللهجات الأصلية بسبب عمليات التوليد الآلي، مما يؤدي إلى تشويه أو تبسيط التراث الأصلي.
- مثال: توليد قصة شعبية عربية بصياغة حديثة قد يغير روح القيم والأمثلة التقليدية كما كانت عليها في السابق .
2. تحيز النماذج الذكية (Bias)
الذكاء الاصطناعي يعتمد خوارزمياته على البيانات التي تُدرب عليها، فإذا كانت هذه البيانات ناقصة أو متحيزة، يمكن أن تقصي بعض المجموعات أو اللهجات عن التمثيل الصحيح.
- مثال: مشاريع رقمنة الأمثال الشعبية قد تهمل لهجات القرى الصغيرة لصالح المدن الكبرى، ما يؤدي إلى انحياز في الأرشيف الرقمي.
3. الملكية والحقوق الفكرية
يُطرح سؤال هام: من يملك التراث الشفهي أو الحكايات؟ إن استخدام الذكاء الاصطناعي لإعادة إنتاج التراث لأي دولة أو مجتمع دون موافقة المجتمعات الأصلية قد يثير مشاكل قانونية وأخلاقية.
- مثال: مشروع رقمي لإعادة إنتاج الأغاني التقليدية قد يُستخدم تجاريًا دون مشاركة الأرباح مع المجتمع الأصلي.
4. التداخل بين التقليدي والرقمي
قد يؤدي الجمع بين التراث التقليدي والتقنيات الحديثة إلى إضفاء طابع اصطناعي على الثقافة، مما يضعف من التجربة الإنسانية المباشرة التي تحمل قيم التعلم والمشاركة الجماعية الجميلة .
5. الأمان الرقمي وحماية البيانات
البيانات الصوتية والنصية للتراث قد تحتوي على معلومات شخصية عن الرواة أو المجتمعات المحلية، لذا ؛إذا لم تُحفظ البيانات بشكل آمن، فقد تُسرب أو تُستغل بشكل خاطئ.
6. سوء الاستخدام التجاري أو السياسي
قد تُوظف هذه الأرشيفات الرقمية لأغراض تجارية بحتة، أو للتلاعب بالثقافة لأهداف سياسية أو دعائية، مما يحوّل التراث إلى أداة ابتزاز ثقافي للشعوب والمجتمعات .
7. فقدان المهارات الحياتية
اعتماد المجتمعات على الذكاء الاصطناعي في حفظ التراث قد يقلل من التفاعل المباشر بين الأجيال، مثل رواية الجد للحفيد، وهو ما يضعف الروابط الاجتماعية والتعلم الشفهي التقليدي عما كان عليه في السابق.
- التحديات:
هناك العديد من التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في حفظ التراث ، ومنها:
- ندرة البيانات الموثوقة
التراث الثقافي الشفهي غالبًا غير موثق بشكل رسمي، ويعتمد على التسجيلات الميدانية أو الروايات الشفهية، مما يجعل تجميع بيانات عالية الجودة لتدريب النماذج الذكية تحديًا كبيرًا.
- بعض اللهجات أو الأغاني التقليدية قد تكون مسجلة بصوت ضعيف أو غير مكتملة، مما يزيد صعوبة التحليل الرقمي.
- تنوع اللهجات والأساليب
التراث الشفهي يتميز بتعدد اللهجات والأساليب اللغوية والإيقاعية، مما يفرض على نماذج الذكاء الاصطناعي قدرة عالية على التعلم من مصادر متنوعة ومعقدة.
- مثال: نفس المثل الشعبي يُقال بصيغ مختلفة في القرى والمدن، والنظام يحتاج لفهم هذه الفروق الدقيقة.
- صعوبة تقييم الجودة الثقافية
حتى إذا نجح النظام في إعادة إنتاج المحتوى، يبقى تقييم مدى أصالته الثقافية والأدبية أمرًا معقدًا.
- التقييم يحتاج خبراء محليين لضمان أن النسخة المولَّدة تحافظ على روح الحكاية أو الأغنية الأصلية.
- القيود التقنية
- دقة التعرف على الكلام (ASR) للهجات قليلة الموارد غالبًا ضعيفة.
- توليد الصوت (TTS) قد يفشل في محاكاة النبرات والإيقاعات الموسيقية التقليدية بدقة.
- تحليل الموسيقى أو المقامات التقليدية يحتاج نماذج متقدمة جدًا قد لا تتوفر بسهولة.
- الاعتبارات الأخلاقية والقانونية
- موافقة المجتمعات المالكة للتراث ضرورية.
- تحديد حقوق الاستخدام والتوزيع للمحتوى الرقمي يمثل تحديًا قانونيًا.
- خطر إساءة استخدام المحتوى لأغراض تجارية أو سياسية.
- التمويل والدعم المؤسسي
مشاريع حفظ التراث بالذكاء الاصطناعي تحتاج موارد مالية وبشرية وتقنية كبيرة، وهو ما يمثل تحديًا في البلدان التي تفتقر للبنية التحتية الرقمية أو الدعم الحكومي.
- مقاومة المجتمعات المحلية
بعض المجتمعات قد تشكك في جدوى الرقمنة أو استخدام الذكاء الاصطناعي في التراث، خوفًا من تشويه التراث أو فقدان السيطرة على محتواه الأصلي.