كتب د تحسبن الشيخلي
“في فجر يوم جمعة بارد، وجدت نفسي فجأة أمام تجربة كدت أفقد فيها حياتي. شعرت بآلام حادة في صدري، إحساس ضاغط جعلني أدرك أنني أمام أزمة قلبية حقيقية. في تلك اللحظة لم يكن أمامي سوى الهاتف، فاتصلت بخدمة الإسعاف، وإذا بالصوت على الطرف الآخر يسألني بسرعة ودقة عن العنوان وطبيعة الأعراض. قال لي الموظف بثقة: ستصلك سيارة الإسعاف خلال 12 دقيقة بالضبط، وسيتصل بك الفريق الآن .لم أملك إلا الانتظار، بين القلق والترقب.
لم تمر لحظات حتى رن الهاتف، وكان المتصلة سيدة تُعرف نفسها: “أنا كارولين، المسعفة في سيارة الإسعاف التي في طريقها إليك”. بدأت تسألني عن تفاصيل الأعراض وحالتي الصحية. وبينما نحن في الحوار قالت فجأة: “لقد وصلنا”. نظرت إلى الساعة، وإذا بالوقت يشير إلى 12 دقيقة تمامًا كما قيل لي.
دخلت علي فتاتان تحملان معدات كاملة، بدأتا بإجراء تخطيط قلب ECG وفحوصات أولية دقيقة. سألتني كارولين بلطف إن كنت أوافق على أن منحها إذن الدخول إلى سجلي الصحي في الـNHS، فوافقت فورًا. لم تكد تطلع على النتائج حتى قالت بثبات: “التحاليل تشير إلى أنك تعرضت لذبحة صدرية ويجب نقلك فورًا إلى المستشفى”.
إلى هنا كان الأمر طبيعي، لكن المفاجأة لم تكن في الإسعاف أو التشخيص فهذه الحالة موجودة في جميع أنظمة الطواريء للدول المتقدمة، بل في الخطوة التالية. كارولين لم تترك القرار لفريقها أو حتى لتقديرها المهني، بل لجأت إلى النظام الذكي الذي يدير خدمة الإسعاف والطوارئ A&E. طلبت من النظام تحديد المستشفى الأنسب لحالتي، ورغم أن مستشفى كنغستون لا يبعد سوى 6 دقائق عن منزلي وفيه قسم متخصص بالأمراض القلبية ، إلا أن النظام لم يختره، بل رشّح مستشفى سانت جورج، على بعد 27 دقيقة كاملة. استغربت وسألت عن السبب، فكان الجواب أن الذكاء الاصطناعي هو من يقرر المستشفى وفق خوارزمية تأخذ في الحسبان عوامل عدة: مدى توافر الأقسام المتخصصة، المعدات الطبية الدقيقة، والكوادر المؤهلة للتعامل مع الحالة.
في تلك اللحظة شعرت أن حياتي تُدار بقرار آلي مدروس، لا بعاطفة بشرية أو تقدير جزئي. ركبت سيارة الإسعاف، ولم يُسمح لي أن أمشي خطوة واحدة، بل وُضعت على الحمالة ونُقلت برفق. في الطريق حقنت بمادة المورفين لتخفيف الألم، بينما كانت جميع بياناتي الطبية تُرسل لحظة بلحظة إلى المستشفى الذي بانتظاري.
وعند باب الطوارئ في سانت جورج كان الفريق الطبي بكامل أجهزته قد جهّز نفسه لاستقبالي. لم يضيعوا وقت ،بل تأكدوا من كل البيانات الواردة مسبقًا، وأجروا تصوير للقلب أظهر ما هو أخطر مما توقعت. وهنا جاء المشهد الفاصل. قال لي الطبيب: “النظام يوضح أن لديك ثلاث انسدادات في الشرايين التاجية، وهي حالة خطرة، ويوصي بإجراء قسطرة وتثبيت دعامة للشريان الأول على الفور”.
انتبهت عندها إلى كلمة “النظام”. لم يكن الطبيب وحده من اتخذ القرار، بل كان الذكاء الاصطناعي شريك أصيل في تحديد التشخيص وتقديم التوصية العلاجية. الطبيب وافق على ما أوصى به النظام، والقرار العلاجي النهائي كان نتاج هذا التداخل بين الإنسان والخوارزمية. هنا تحديدًا أدركت معنى ما أسميته سابقًا “الانزياح الخوارزمي للقرار” (Decision Algorithmic Shift)، أي انتقال القرار من كونه حكر على العقل الطبي البشري إلى أن يصبح مشتركًا مع النظام الذكي.
في تلك اللحظة لم أشعر بأنني مجرد مريض على سرير، بل أنني أمام مشهد جديد في الطب الحديث، حيث تتكامل خبرة الإنسان مع قدرات الآلة. الذكاء الاصطناعي لم يكن مجرد مساعد، بل كان شريك فعلي في إنقاذ حياتي. كان يقرأ بياناتي، يحلل احتمالات الخطر، يقارن قدرات المستشفيات، ويقترح التدخل الأنسب، وكل ذلك بسرعة ودقة يستحيل على إنسان واحد أن ينجزه في مثل هذا الوقت الضيق.
ربما لو تم نقلي إلى مستشفى قريب لا يملك الإمكانيات نفسها لكانت النتيجة مختلفة. لكن بفضل النظام الذكي، وجدت نفسي في المكان المناسب وبين الأيدي الصحيحة في اللحظة الحرجة. لم يعد القرار الطبي شأنًا فرديًا، بل أصبح عملية معقدة يتداخل فيها الذكاء الاصطناعي مع الخبرة البشرية، في شراكة جديدة تعيد تعريف معنى المسؤولية الطبية.
اليوم، وأنا أكتب هذه السطورمن المستشفى ، لا أفكر فقط في الأزمة التي تجاوزتها، بل في الدرس الذي حملته التجربة. الذكاء الاصطناعي لم يعد ترف أو خيار تقني ،بل أصبح جزء من منظومة إنقاذ الحياة نفسها. لقد كان شريك في بقائي حي، وأثبت أن الانزياح الخوارزمي للقرار هو واقع نعيشه، لا نظرية نناقشها في قاعات البحث”.
