بقلم أميرة ناجي/فنانة تشكيلية
يُعد أندريه ماسون أحد أبرز الوجوه في تاريخ الفن الحديث وأحد الفنانين الذين سعوا بجرأة إلى كسر قوالب الإدراك المألوف والانفلات من سلطة العقل لصالح انفتاح البصيرة على المجهول. وُلد في فرنسا عام 1896 ونشأ في بلجيكا حيث درس الفن في سن مبكرة في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة ببروكسل تحت إشراف كونستانت مونتالد ثم واصل دراسته في باريس. شارك في الحرب العالمية الأولى وتعرض لإصابة خطيرة تركت أثرها في رؤيته للحياة والفن على حد سواء.

بدأ ماسون متأثرًا بالتكعيبية لكنه وجد ضالته لاحقًا في السريالية حيث كان من أكثر فنانيها شغفًا بالرسم الآلي فكان يعمل تحت ظروف قاسية ويقحم نفسه في حالات من الجوع والسهر واستخدام المخدرات ليصل إلى مستوى من الوعي المنخفض الذي يسمح للعقل الباطن بأن يتكلم بحرية. كان يرى أن على الفنان أن يتحرر من قبضة العقل ليكشف ما تخفيه الأعماق وأن الفن الحقيقي هو ما ينبع من تلك المنطقة الغامضة التي تتجاوز المنطق.
تتسم أعماله بروح المغامرة والبحث فهي ليست تصويرًا لما يُرى بل لما يُحس وتكشف عن ديناميكية داخلية تشبه نبض الحياة ذاته. الطبيعة عند ماسون ليست موضوعًا خارج الذات بل كيانًا حيًا يتحرك ويتنفس فالأشجار في لوحاته تبدو ككائنات أسطورية تمتد جذورها نحو القلب وتتشابك أغصانها كشبكة من الشرايين التي تنقل نسغ الحياة. لم يكن يسعى إلى تمثيل الطبيعة كما تُرى بل إلى القبض على جوهرها في خضم حركتها المتواصلة وسرّ خفقانها الداخلي.
هذا الحس الطبيعي العميق ظل ملازمًا له منذ ابتعاده عن المدن الكبرى إلى الريف حيث وجد في العالم العضوي لغة تتجاوز ضجيج الحداثة. انعكست تجربته في الحرب على رؤيته دون أن يعبّر عنها بشكل مباشر فلوحاته اللاحقة حملت أثر الجرح الإنساني العميق دون أن تسقط في التوثيق أو الوعظ. لقد حوّل الألم إلى طاقة جمالية تبحث عن معنى الوجود وسط الفوضى.
في مراحل لاحقة اتخذت أعماله منحى أكثر رمزية فاستعار من الفلسفة مفاهيم الوحدة والعزلة وتأثر بقراءة نيتشه ودومليك مما أضفى على فنه بعدًا تأمليًا يتجاوز الشكل إلى الفكرة. لوحاته امتلأت بالرموز اليومية من زهور وآلات موسيقية وغيوم وأيدي وغلايين وأوراق لعب لكنها كانت تحمل دائمًا بعدًا ميتافيزيقيًا يجعلها تبدو كأحلام يقظة بين الواقع والخيال. من خلال هذه المفردات البسيطة خلق عوالم غير واقعية ذات نسب متحوّلة وأفق مفتوح على احتمالات لا نهائية.
كان ماسون يرى أن الفنان يجب أن يغامر في المجهول وأن يقترب من حدود الوعي كما يقترب الحالم من الحافة بين اليقظة والحلم. في أعماله يندمج الداخل والخارج في وحدة كونية يصبح فيها الجسد والطبيعة والفضاء تعبيرًا واحدًا عن هوية الإنسان وصراعه الدائم مع ذاته ومع العالم. بهذا المعنى يمكن القول إن تجربة ماسون هي سيرة اكتشاف مستمرة للإنسان في بعديه المادي والروحي ومحاولة لتحرير الصورة من أسر المنطق كي تستعيد الفن طاقته الأولى في ملامسة الجوهر.
لقد ترك أندريه ماسون إرثًا فنيًا وإنسانيًا فريدًا يتجاوز حدود الزمن وظل مثالًا للفنان الذي جعل من الفن مغامرة في المجهول ومن اللوحة مسرحًا لصراع الوعي واللاوعي حيث يتحول العقل من سيد إلى شاهد على انبثاق الصورة من أعمق مناطق النفس







