خاص للغرفة 19
إغناء :
في كتابها “ القصة القصيرة النسائية الإماراتية 1970- 2000″ للكاتبة ناجية على راشد الخرجي، الصادر عن دائرة الثقافة بالشارقة طبعة أولى 2018، تتقصى الكاتبة تجربة الكاتبات الإماراتيات منذ تأسيس الدولة وحتى العام 2000، وركّزت على تطوّر الكتابة من الشكل التقليدي إلى تقنيات التجريب والتجديد، وشرحت فيه خصائص القصة النسائية الإماراتية، حيث وضعت السرد القصصي النسائي الإماراتي في سياق منفصل عن إنتاج الرجل في الكتابة الإبداعية القصصية، وبرّرت الكاتبة هذا الفرز من منطلق أن للأدب السردي النسائي خصوصيته المتمثلة في الصدق في رصد ملامح الإمارات وما أفرزته التطورات المادية بعد ظهور النفط من قضايا ومشكلات اجتماعية وإنسانية وطموحات وطنية، وقد عبّر عنها أدب المرأة أصدق تعبير، عبر تمثّل جماليات القص الكلاسيكي، ثم تحوّل القص باتجاه التجريب والجدّة، فلم يعد نسخًا مكرّرة مما يكتبه الرجال، وإنما أصبح ذاتيًّا يعتمد على تناول التجارب الخاصة للكاتبات، أو على تناول غير مطروق مسبّقًا للواقع، فاختلفت الطروحات والأساليب والأدوات والرؤى الفكرية.
ولا يختلف السرد الروائي النسائي الإماراتي عن السرد القصصي، وإن اختلفت درجة الريادة التي رجحت باتجاه القصة القصيرة، ولكن، في هذه الرواية، والمعنونة ب ( رائحة الزنجبيل) للكاتبة والشاعرة الإماراتية صالحة الغابش، لمست درجات متقدمة من تقنيات الروي الحداثي، على مستوى التقنيات الأسلوبية، وعلى مستوى التقنيات السردية الفنية، وأعزو ذلك إلى معرفتها ل (تقنيات وفنيات السرد)،وتمييزها بين التقنيات السردية االتي تنظّم الجنس الأدبي السردي، وفنيّات الكتابة السردية، التي تميّز النوع السردي، سأعرّج على تلك التقنيات بنوعيها الأسلوبية والفنية بالتفصيل من خلال هذه الدراسة الذرائعية التقنية، التي اعتمدتها عبر المستويات الذرائعية التالية:
أولًا- البؤرة الثابتة Static Core :
وتحتها ينضوي مفهوم الثيمة:
عبر تقنية الموضوع أو الثيمة Theme: وظّفت الكاتبة الثيمة الرئيسة للعمل الروائي، وهي المدنيةالمعصرنة، تعرضها الكاتبة من خلال موقف بطلة الرواية الدكتورة علياء الغافي من التحوّلات التي طرأت على دولة الإمارات، خلال تحوّلها التاريخي من مرحلة الاستعمار الانجليزي إلى قيام دولة الإمارات الحديثة، وكل ما رافق ذلك من تحديث للبنية الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية والثقافية، ولا تعني الكاتبة ثيمة مدينة بعينها، رغم أنها تتبّعت ذلك التحوّل التاريخي من خلال مدينتها القديمة ( الحيرة) في إمارة الشارقة، وإنما تعني كل دولة الإمارات، بكل الظواهر العلمية والثقافية التي طالتها أذرع العصرنة، والتي جعلت الإمارات قبلة تحج باتجاهها كل العقول العلمية والتجارية الحالمة بالمال والثقافة، ولعل اختيارها للشارقة تحديدًا هو من قبيل أنها اختيرت مؤخرًا عاصمة للثقافة.
وهناك ثيمات فرعية، لا تقل أهمية عن الثيمة الرئيسة، عرضت لها الكاتبة عبر المواضيع المطروحة في متن النص الروائي، منها الثيمة النسوية، وقد عرضتها عبر شقّي الطموح والكفاح، الطموح الذي تمثّل نموذجه بطلة الرواية الدكتورة علياء الغافي ابنة أحمد بن سيف الغافي، صياد السمك الذي لم يغيّر حرفته، فلم يغره صيد اللؤلؤ، رغم أن البحر مصدر البضاعتين، كما لم يغرِه البترول حديثًا، إلا أن انفتاح الدولة الحديثة تجاريًّا ساهم في تنمية مورده المالي، ومكّنه من تصدير السمك عبر مؤسستهالخاصة إلى خارج الإمارات، ثمّ تنوّعت تجارته بين العطور والأقمشة والبضائع المميزة والمطلوبة التي كان يأتي بها من الهند وغيرها، وبالعودة إلى ابنته علياء التي بقيت الشركة الكبرى تحت إدارتها، وأعلنتها جهارًا ( أنا الريال اللي تعتمد عليه في أعمالك)، حين تراخى أخويها جاسم وعبد الله عن فعل ذلك مكتفين بالإرث النقدي والعقاري، ماضين تحت إغراء المال والتجارة في مجالات عصرية، أوصلها طموحها لأن تصبح سيدة أعمال حائزة على دكتوراه في الاقتصاد، تدرّس في الجامعة، وتدير مؤسسات كبيرة، تنال شهرة إعلامية، وتنافس أعتى الرجال.
عبر شق الكفاح، كانت (عُذيبة) تقود معركتها ضد بطرياركية الذكورة التي أقصتها عن التعليم في سن مبكرة، في حين نال أخوتها الذكور نصيبهم منه، لكنها لم تستسلم، بل ازداد نهمها للقراءة والثقافة، أكملت تعليمها بعد زواجها، وبقيت محافظة على القيم الأخلاقية والفكرية والاجتماعية التي غرستها فيها ثقافة الأجداد في وادي الحلو، بقيت ملتصقة ببيئتها البكر ودفء الطبيعة، بعيدًا عن قيم الترف والنفاق والغيبة والنميمة والحسد التي هتكت فيها العصرنة بكارة المدن فأفقدتها دفء العلاقات الإنسانية والحميمية.
وكلاهما، علياء وعُذيبة، جمعتهما الصداقة منذ الصغر، لكن ما ربط بينهما فعليًّا هو التجوال خارج غرفة فيرجينيا وولف، بدافع الطموح والكفاح لاكتشاف العالم والعيش فيه بتميّز.
أما عن ثيمة الكاتبة واستراتيجيتها بالكتابة:
نلمس رؤية الكاتبة الفكرية اتجاه الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، اتجاه المكان، المدينة القديمة، الريف البكر، اتجاه الماضي والحاضر، وفضاء المدينة الإماراتية العصرية، من خلال نموذج مدينة الحيرة التراثية، في إمارة الشارقة، الحيرة مدينة التاريخ والشعر والشعراء والصيادين والتجار، وطبيعتها الساحرة بشاطئها ونخيلها ونسائمها اللطيفة، عبر (رائحة الزنجبيل) عملت الكاتبة على استعادة الماضي وإعادة قراءته من منظور عصري، مخالفة بذلك العادي والمألوف، حيث يقوم الكاتب بالعادة بمحاولة قراءة وفهم الحاضر عبر استحضار الماضي، وهذا نوع من محاولة تأكيد الهوية والانتماء إلى الجذور، اضطرها إليه ذلك الحنين الذي يختلج في بواطنها النفسية، والذي جعلها تشمّ جذور الماضي، وتتمسّك به، بل وتحاول البقاء فيه، ليس هروبًا ورفضًا للحاضر، فهي متصالحة معه، بل مؤمنة بحتمية وضرورة تقدّم المدن، وإنما بحثًا عن الدفء في علاقات الماضي، وهروبًا من برودة غلالات الحاضر المعاصر التي حجبت عن الناس دفء الشمس.
والرسالة التي توجهها الكاتبة من خلال هذه الثيمة تشكّل:
الخلفية الأخلاقية للرواية: وهي ضرورة الاهتمام بالقيم الإنسانية والأصالة، وتجنّب عواقب بتر الأجيال عن الماضي مهما كان سيف الحاضر قاطعًا وبتّارًا.
ثيمة الناقد:
سأتناول هذا العمل الروائية نقديّا بالاعتماد على النظرية الذرائعية المستلة من المنهج الذرائعي، والتي تُعنى بدراسة المعاني الإيحائية المخبوءة، بعد اختراق المعاني السيميائية الظاهرة، والوقوف على التقنيات السردية والأسلوبية المستخدمة من قبل الكاتب في النص السردي.
ثانيًا- المستوى البصري:
العنوان :
رائحة الزنجبيل
ابتسامتها .. حين تشرق في وادي الحلو
تعتمد الكاتبة استراتيجية معينة في اختيار العناوين، وهي اعتمادها عنوانين لنفس المتن، الأول سيميائي يحيل إلى المعنى الإيحائي، والثاني لا يعدو كونه جملة أدبية تحمل جماليات لغوية. ذرائعيًّا هذا الأمر غير محبّذ، فالعنوان بوابة العمل الروائي، ووجود عنوانين لنفس العمل يحيل إلى بابين لبيت واحد.
سأتخطّى المعاني القاموسية للعنوان الأول كدلالة سيميائية، وأنتقل إلى المعنى الإيحائي، لإيجاد المضمون الذي انغلق عليه هذا العنوان كمكوّن نصّي مكثف ورمزي.
عبر التقنية الرمزية وظّفت الكاتبة العنوان، وعبر تقنية الرمز الخاص، أغلقت رمزها الخاص في جملة العنوان، ثم فتحته في متن النص الروائي، ف ( رائحة الزنجبيل) إحالة إلى طقس تراثي اجتماعي للأسر الشرقية بالعموم، والأسر الإماراتية بالخصوص، ولأسرة علياء الغافي هنا بالتحديد، التي اعتادت شرب كوب الحليب بالزنجبيل من يد أمها التي كانت تعالجها فيه من أمراض البرد، فنجد علياء تتذكّر رائحة الزنجبيل كلما عضّتها أمراض برد العصرنة، كلما لسعتها غربة وقسوة العلاقات الإنسانية تحنّ إلى دفء علاقات الماضي، فتهرب من مدينة الشارقة إلى الحيرة، إلى أهل الممر الحلو، إلى أي فضاء مكاني مازال يحتفظ ببكارته، وزماني مازال يحتفظ بدفء القيم والعاطفة والأصالة.
لم تكتفِ الكاتبة برائحة الزنجبيل فقط لتوظيفها عبر تقنية التوازي Parallelism كعتبة واقعية تنقل الشخصية من أحداث الحاضر إلى أحداث الماضي لتنتج تقنية سردية هي:
تقنية تيار الوعي Stream of consciousness ، بل وظّفت معها عتبات واقعية أخرى من جنسها (رائحة) مثل، رائحة الحريق، ورائحة القهوة ورائحة التمر واللبن المخثّر.
واستخدمت ذات التقنية ( التوازي) في تمثّل حالة الاختراق والخروج لتلقي المطر الغزير، وهي الحالة التي تحمل بعدًا رمزيًّا يختلف عن المعنى المألوف للمطر كرمز تقني Allegory يحيل إلى الحياة والتجدّد والخير والبشارة والنعمة والخصب، فكانت مغامرة خروج الدكتورة علياء من المنزل وركضها واختراقها للمطر، وهي سيدة أعمال مرموقة في عمر الأربعين، موازيًا للرغبة في اختراق العادات والتقاليد، والخلاص والتخفّف من حياة عملية ألقت بأثقالها عليها فأنستها ذاتها، وهرب منها شبابها على حين انشغال منها، وها قد بلغت الأربعين، ولم تظفر بعد بمن يداعب أنوثتها ويهديها الأمومة:
( السرعة تلف خطواتها في اختراق لم تعهده.. اختراق للمطر وللعادات.. اختراق لنفسها ولكل هذه الحالة المتهالكة التي تعاني من وطأتها منذ عشرين عامًا..).
مجرد وصف الحالة بالمتهالكة، وتحديد الزمن بعشرين عامًا مضى، تبني الكاتبة أهم عنصر من عناصر الحدث السردي عبر تقنية التشويق Suspense التي تثير تساؤلات القارئ، وتشغله بمحاولات مستمرة للبحث عن إجاباتها على امتداد المتن الروائي.
وبنفس التقنية، ستتوازى (عُذيبة) دلاليًّا مع الطبيعة.
بسطت الكاتبة عملها على مساحة 18 فصلًا، الفصول متباينة في عدد الصفحات، معنونة بعناوين فرعية، وجعلت كل عنوان على نوعين، على غرار العنوان الرئيسي، الأول سيميائي، والثاني جملة أدبية يغلب عليها التصوير اللغوي أو البلاغي، لا أقول لغة شعرية، وإنما هي لغة أدبية، لأن الشعر شعر والسرد سرد، وكلاهما يُكتبان بلغة أدبية.
ثالثًا- المستوى اللساني والجمالي:
وظّفت الكاتبة العديد من التقنيات اللغوية الأدبية (الأسلوبية)، مفيدة من علوم البلاغة والبيان والبديع، منها مثلًا:
التحفت البيوت بظلامها باكرًا كالمعتاد في هذا الليل الشتوي.
تنفض الأوكار المعتمة أشباحها الشريرة التي أخذت تتسكع بين البيوت.
تبدو الأشباح وكأنها تحمل على أكتافها ما يشبه الصواري التي لم تعلق عليها الأعلام بعد.
أو تبدو من زاوية أخرى وكأن الأكتاف مطعونة برماح ثابتة عليها.
الصور الأدبية: هي اللغة التي تصف شيئًا ما بالتفصيل، باستخدام الكلمات لتحلّ محلّ الفرشاة بالرسم، والعدسة بالتصوير، وذلك من خلال التحفيز الحسي، بما في ذلك الصور المرئية والصور الصوتية، وهذا مانسميه الرسم بالكلمات، على سبيل المثال:
(حين يبدأ الفجر بالانحسار، وقد طوت الأرواح سجادة الصلاة على جبين الكون الساجد أبدًا لخالقه، يخرج الصيادون والنشيد الجماعي للنوارس يملأ الفضاء المحضون بزرقتي السماء والبحر).
رابعًا – المستوى الديناميكي:
وسأعرض فيه لأهم التقنيات السردية الفنية التي وظّفتها الكاتبة في تشييد البناء الفني للرواية، وأول التقنيات:
تقنية الزمكانية :Setting
زمن السرد الروائي في هذا العمل لا يتعدّى أيامًا قليلة قضتها البطلة علياء في المستشفى، مصابة بنزلة برد شديدة نتيجة خروجها تحت المطر، فترة الاستشفاء كانت كافية لممارسة التأمل بين الماضي والحاضر، ما أتاح لها مجالًا للكتابة الروائية بفصول متباينة غير منتظمة، تعكس ارتباطًا واقعيًّا مع حالات الحمى والهذيان والصحوة والأحلام، ولعل عناوين الفصول خير دليل على ذلك، مثل:
(متاهة / الوجوه التي نحبها، ليست وحدها دافعًا للكتابة)، ( هذيان/ بعض الحقائق تطفو على سطح الحمى)، ( مشغولة/ لحظة مخاتلة.. تلك التي تجعلنا نبوح.. ثم نندم).
أما عن زمكانية الأحداث المروية: فقد تناول النص الروائي أيضًا موضوع الربط بين الماضي والحاضر بما يشبه الدراسة الاجتماعية، انطلقت فيها الكاتبة من توظيف تقنية السياق Context التاريخي المتمثّل بفترة الاستعمار الانجليزي للخليج، من حادثة وطنية مشرّفة في زمكانية السلف، في أربعيناتالقرن الماضي، حين قام جدّها لأبيها مع أصدقاء له بإحراق سفينة قادمة من الهند محمّلة بالبضائع التي ينتفع بها فقط العدو الانجليزي المحتل، وركّزت على أهمية الحدث السردي بعناصره الكاملة من حيث الزمان( إبان الاحتلال الإنجليزي)، والمكان ( منطقة الحيرة في الشارقة)، هذه المنطقة التي انطلقت منها شرارة الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومن خلال التلاحم الشعبي الذي جمع التاجر والشاعر في مجالسها لانتاج قيم وطنية حملت مبادئ الكفاح لمناهضة المستعمر الإنجليزي وتحرير البلاد منه.
ولا يمكن للحاضر أن يكون مشرقًا إلا إذا قام على بقعة ضوء مشرقة من الماضي، وفي كلا الزمنين يبقى الكفاح بطل الحدث، وهذا ما أكّدت عليه الكاتبة، الحاضر المترف، الذي جاء مع اكتشاف البترول في الإمارات، لا شك عبث ببعض القيم، وظهرت ثقافة مجتمعية مغايرة، غيرّت الكثير من السلوكيات الاجتماعية للكثير من الأفراد والجماعات، عبّرت عنه الكاتبة حين وظّفت تقنية هيكليّة البناء السردي Structure بحدث حفل العشاء الذي أقامته السيدة نورة بمناسبة افتتاح دار الأزياء الفخمة خاصتها، في مدينة الشارقة فهناك طبقة اجتماعية جديدة ظهرت وطفت على مسرح الحاضرهي طبقة ( سيدات الأعمال)، والمديرات والرئيسات والمسؤولات في شركات ومؤسسات مختلفة، وملحقاتهن من ربات البيوت المترفات والمتطفلات المشاركات في مجالس البذخ والمجاملات والحسد والدسائس والنميمة، مثل مريم التي تحاول الهرب من فقر ماضيها، والانتقام الرخيص لحاضرها عبر محاولة توريط الدكتورة علياء بالزواج من ناصر أخيها من أمها، الكذّاب المتسلّق، الذي ينوي الاستحواز على أموالها، فيتحقق بذلك لمريم انتقامها من أسرة الغافي، أم علياء تحديدًا، التي كانت تتصدّق على أم مريم.
إذن، هو تطور جديد ومهم في المجتمع النسائي تحديدًا، عرضت له الكاتبة من جانبيه، السلبي التي اعترى القيم الأخلاقية والاجتماعية، والإيجابي الذي تمثّل بالوعي الفكري والتحصيل العلمي والثراء الثقافي، مقادًا بالطموح غير المحدود الذي نقل المرأة الإماراتية نقلة نوعية، وخلال زمن قصير نسبيًّا في عمر نشوء الدول الحديثة، فكانت علياء أنموذجًا مشرفًا للنجاح، تحصّلت على الدكتوراة الجامعية، وأنشأت مؤسستها التجارية وأدارت أعمالها فيها بمنتهى النجاح، بل وتفوّقت على أخيها عبد الله الذي تورّط في إخفاقات تجارية متوالية، انتهت بسكنه مع زوجته وأولاده في بيت علياء كوسيلة من وسائل المساعدة التي قدّمتها له.
ولأن الرواية تتناول موضوع فقدان العلاقات الدافئة والحميمية بين أفراد المجتمع المديني اختارت الكاتبة، وعن وعي ودراية تقنية تيار الوعي Stream of consciousness لتبرز أهمية الكتابة الواعية التي تجعل القارئ مشاركًا في تتبّع أفكار الشخصيات في الوقت الفعلي، وبالتالي تمكينه من فهم، ليس فقط ما تفعله الشخصية، ولكن فهم لماذا تفعل ذلك أيضًا، وهذا ما يتيح للكاتب تقديم صورة أكثر حميمية لموضوعه، بدلًا من حصره في الأوصاف المادية أو حسابات الحوار المنطوق، وكلاهما، تقنية الوصف السردي، وتقنية الحوار السردي، كانتا تقنيتان قياسيتان، حتى ظهرت تقنية تيار الوعي.
وقد برعت الكاتبة بتشكيل نقلات أو قفزات سريعة من الحاضر إلى الماضي، وبالعكس، وابتكارعتباتها الواقعية من الروائح، والأمثلة على هذه التقنية كثيرة، منها مثلًا:
( ارتفعت رائحة الدخان إلى الطابق الثاني من البيت فانتبهت علياء للرائحة، ظنّت أن تأثير حلم اليقظة الذي استرجعت فيه حكاية جدّها مع الانجليز في الأربعينيات قد فاض حتى تمثّلته في حواسها، وخاصة حاسة الشم التي التقطت رائحة حرق السفن).
خامسًا – المستوى النفسي:
حفل العمل بالكثير من العبارات المرجعية والحكم والمواعظ والاستنتاجات الوجدانية التي تناصت فيها الكاتبة عبر تقنية الإغناء أو التناص Intertextuality مع كاتبات سابقات، أهمهنّ فيرجيينيا وولف:
(حين يتمثّل الإنسان في إنسانيته يغوص داخلها باحثًا عن جوهره الذي يتعرض للنسيان إلى أن يأتي الزمان بنوازله المعتادة .. فتطفو). صالحة عبيد غابش
“النضج يفقدنا بعض الوهم، لأجل أن يكسبنا أوهامًا أخرى”. فيرجيينيا وولف
د. عبير خالد يحيي 22/ 4/ 2024 مرسين – تركيا