
منذ وُجد الإنسان، وهو يغني. ربما لأن اللغة لم تسعفه دائمًا، وربما لأن اللحن كان أقرب إلى نبض القلب، أو لأن الصوت حين يتألم أو يفرح، يحتاج أن يمتد أكثر من الكلمات.
فيما يُسمى بـ “الزمن الجميل”، كانت الأغنية أكثر من مادة ترفيه. كانت طقسًا اجتماعيًا، و”شيفرة” وجدانية، وذاكرة جماعية تتناقلها الأجيال.
لم تكن شيئًا نستمع إليه في الخلفية، بل شيئًا نُصغي له بكامل حواسنا.
-حين كانت الأغنية موعدًا لا يُفوت:
قبل الإنترنت، قبل الهواتف المحمولة، كانت الأغنية تُبَثّ مرة واحدة، في توقيت معلن، فتتوقف العائلات عن طقوسها لتُصغي. صوت أم كلثوم مساء الخميس،
أو فيروز مع شروق يوم جديد، كان أكثر من غناء… كان لحظة هوية. الناس لا يستمعون فحسب، بل يعيشون الأغنية، يُكملون جملها في رؤوسهم، ويربطونها بشخص، أو شارع، أو فراقٍ أو لقاء حدث قبلها بساعات.
اليوم؟
باتت الأغنية مِلفًا صوتيًا في مكتبة مزدحمة، نتخطّاها كما نتخطّى إعلانًا،
ونادراً ما نُعيد سماعها لأننا أحببناها، بل لأن الخوارزمية اقترحتها علينا.
-من الطرب إلى التفاعل… ثم إلى الاستهلاك السريع:
في زمن الأغنية الجميلة، كان التلحين فنًّا متمهّلًا، والكلمة تُنحت ببطء، والصوت يُدرَّب ويُنقّى كأنه آلة مقدسة.
المستمع كان شريكًا: يُصفّق، يُعيد، يتنهّد، يدمع…كل شيء كان حيًا.
أما اليوم، فالمعادلة اختلفت: الأغنية أصبحت منتجًا سريعًا، أشبه بعلبة مشروب غازي: منعشة للحظة، لكن بلا قيمة غذائية.
هل المشكلة في الأغنية أم فينا؟ ربما في كليهما. ربما فقدنا القدرة على الإصغاء الطويل، وأصبحنا نريد أغاني “تُشبه الفيديوهات القصيرة”: مؤثّرة فورًا… وتُنسى فورًا.
-من القصيدة إلى الجملة الرائجة:
في “الزمن الجميل”، كانت الأغنية منحوتة من لغة الشعر. كلمات مثل: “أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبي”، أو جفنه علّم الغزل…” كانت جزءًا من ثقافة عامة، تتذوّق المعنى قبل أن تطلب الإيقاع.
اليوم، معظم الأغاني تُبنى على “الجملة الرائجة”، تُكتب بسرعة، وتُلحّن بالحاسوب،
وتُروَّج عبر الإعلانات والمنصات…حتى صار نجاحها يُقاس بعدد “الريلات”، لا بعدد القلوب التي حفظتها.
–ومع ذلك… عصرنا هذا لا يخلو من الجمال:
رغم كل ما سبق، فليس كل ما في عصرنا “تافهًا” أو “هزيلًا”. فثمة أصوات جديدة تعيد الاعتبار للكلمة، وثمة موسيقيون يعيدون اختراع التراث، وثمة أغنيات تنجح دون أن تروّج لسطحية أو ابتذال.
نحن في حاجة إلى غربال داخلي، يفرز ما يُغني الروح من ضجيج الاستهلاك.
بل لعلّ هذا العصر، بما يتيحه من تنوّع وأرشفة وتفاعل مباشر، قد يكون، في عين أولادنا بعد خمسين عامًا، هو أيضًا: زمنًا جميلاً.
-خاتمة: حين تغني الذاكرة:
ليست الأغنية جميلة فقط لأنها قديمة، بل لأنها كانت مرآة عصرها، ومتنفسًا للناس، وأشواقًا في صيغة لحن.
وفي سلسلة “الزمن الجميل”، لا نكتب لنندب، بل لنُعيد فهم تلك العلاقة العميقة بين الفنّ والزمن والوجدان.