
في أحد أعداد مجلة فنية ظهرت في ستينيات القرن الماضي، تزيّن الغلاف صور ممثلين وممثلات بملامح صارخة، وفي الأعلى، اسم المجلة مكتوب بخط عريض:
“السينما والعجائب”.
عجائب؟ هل كانت السينما آنذاك معجزة؟ أم أن المجتمع كان يراها كذلك لأنها نافذة سحرية تهرّبهم من واقع مأزوم، إلى حلمٍ مُعلّق على شاشة؟
كان هذا العنوان الغريب ـ “السينما والعجائب” ـ يلخص باختصار علاقة الناس بالسينما في ذلك الزمن، فهي ليست فنًا، ولا صناعة، بل حالة وجدانية، وهروبًا جماعيًا… وصمتًا يُضاء.
-السينما في “الزمن الجميل”: حلمٌ في قاعة مظلمة:
لم تكن قاعات السينما مجرّد أماكن عرض، بل كانت أماكن طقسية: الناس يلبسون أفضل ثيابهم، يتأهبون لموعد مع الشاشة كما لو كانوا ذاهبين للقاء عاطفي… أو إلى قدّاس. كان الفيلم يُشاهَد لا مرة واحدة، بل مرارًا، وتُحفظ حواراته، وتُقلّد ملامح أبطاله في الحياة اليومية، وتُردد نهاياته في نقاشات المقاهي والحارات.
في “الزمن الجميل”، لم تكن السينما مجرد ترفيه، بل كانت تشكّل الذائقة، وتبني الخيال، وتعيد تشكيل الذاكرة الجمعية.
-أبطال على الشاشة… وزعماء على المقعد الخلفي:
لكن، كما في كل ما هو جميل، كانت هناك أيادٍ خفية تُعيد صياغة الحلم وفق مقاسات السلطة.
في كثير من الأحيان، كانت الأفلام تمر عبر فلاتر الرقابة، وتُكتب لتخدم سرديات معينة: الزعيم الوطني، الجندي المنضبط، المواطن المطيع. وكانت البطولات على الشاشة أحيانًا أقنعة لخطاب سياسي غير معلن.
وفي بلادنا، كثيرًا ما كانت أجهزة المخابرات تراقب السيناريوهات كما تراقب المنشورات. وكان بعض المخرجين يُكافَأ لا على جودة الفيلم، بل على “انضباطه” في التلميح… أو في تجاهل الواقع تمامًا.
-السينما بين الفن والإلهاء:
لم يكن كل شيء خاضعًا للسيطرة، فقد ظهرت أفلام تجاوزت الخطوط، وسينمائيون نقدوا البنى الاجتماعية والسياسية، ولو بالتورية أو عبر “الرمز الثقيل”.
لكن في المقابل، استُخدمت السينما كثيرًا كـ أداة إلهاء جماعي: قصص حب ساذجة، مغامرات بوليسية غير واقعية، تصوير الحياة الشعبية على أنها فُكاهة بريئة، وتقديم المرأة إما كرمز إغراء أو كتضحية مطلقة…كل ذلك ساعد في ترسيخ صورة زائفة للمجتمع، جميلة نعم، لكنها بلا عمق.
-المقارنة مع اليوم: من الشاشة الكبيرة إلى شاشات الجيب:
السينما اليوم تعيش مرحلة تحوّل عنيف: لم تعد القاعة شرطًا للمشاهدة، ولا الفيلم حكرًا على دار العرض. كل شيء صار على الهواتف، وصار الإنتاج متنوعًا جدًا، بعضه يلامس الواقع أكثر من أفلام الأمس، وبعضه الآخر يغرق في التفاهة أكثر من “عجائب الأمس”.
لكن ما خسرناه حقًا هو الطقس الجماعي للمشاهدة، ذلك الشعور بأننا نعيش حلمًا واحدًا، في ظلمة واحدة، ثم نخرج منه محمّلين بأسئلة وأغنيات وابتسامات صامتة.
-خاتمة:
“السينما والعجائب “…كان الاسم مضحكًا يومًا، لكنه يكشف الكثير: عن كيف كنا ننظر للسينما، وكيف كنا بحاجة لـ”عجائب” كي نتحمّل الواقع، وكيف كانت الشاشة ملاذًا من الخوف… أو تكريسًا له.
ولعل أجمل ما في سينما “الزمن الجميل” أنها رغم كل الرقابة والتوجيه والسطحية أحيانًا، أنجبت لحظات خالدة، تنبض حتى اليوم، في وجدان من عاشوها… أو حلموا بها.