
في المقهى القديم، لم يكن الناس يذهبون ليشربوا الشاي والقهوة فحسب، بل ليتنفسوا، ويحكوا، ويصمتوا معًا.
المقهى في “الزمن الجميل” لم يكن مجرّد محل، بل كان امتدادًا للبيت…وورشةً يومية لصناعة الحكاية، والثرثرة، والجدال، والمصالحة.
-طاولة مربعة… وعالمٌ دائريّ:
كانت الطاولات من خشب متعب، والمقاعد تصدر صريرًا مألوفًا، والنرجيلة تُدار بحذر، والشاي يُصبّ في كؤوسٍ صغيرةٍ لا تبرد. وكانت الحكايات تطفو فوق الطاولات: السياسة، الغزل، الحظ، الهجرة، كرة القدم، كلها تتعايش في لحظة واحدة، بلا تحكيم، ولا مقاطعة، ولا “إلغاء ثقافي”.
-زبائن دائمون… ووجوه لا تُنسى:
لكل مقهى روّاده الدائمون، أولئك الذين يجلسون في ذات الزاوية، في ذات الوقت، ويطلبون ذات الطلب. كان يمكن أن تضبط ساعتك عليهم. وكان بعضهم لا يشرب شيئًا، بل يأتي ليكون موجودًا، ليُرى، وليرى أن الحياة لا تزال تمرّ من هنا. وكانت هناك وجوه لا تُنسى: اللاعب المعتزل، المتقاعد الحزين، الكاتب المغمور، العاشق الصامت، كلهم أبطالٌ في مسرحية بلا نص، لكن بعرضٍ يومي.
المقهى كمشهد ثقافي وسياسي:
في بعض المقاهي، كانت تُقرأ الصحف بصوت عالٍ، وتُكتب القصائد على المناديل، وتُلقى النكات السياسية على وقع ضحكات متوترة.
كان المقهى، دون أن يدري، مساحة حرية ناعمة، حيث يُفرّغ المكبوت، وتُتداول الشائعات والحقائق، ويُعلن الحزن أو الانتصار بلغة الجملة العابرة.
-الأحاديث المتكررة… بلا ملل:
عشرون عامًا والحديث نفسه: عن فريق خسر، عن عمل لم يتحسن، عن جارٍ مزعج. لكن لا أحد كان يملّ. لأن المقهى لا يبيع الجديد، بل يُعيد صياغة المعتاد بلطف.
وكان “المعلم” صاحب المقهى، مُصلحًا اجتماعيًا أحيانًا، وشاهدًا على قصص حب تُولد وتموت دون أن تُعلن.
-المقاهي اليوم… من “الناس” إلى “الإنستغرام”:
اليوم، تغيّرت صورة المقهى. أصبحت الطاولات مصممة للتصوير، والقهوة تُشرب للعرض، والناس لا يتحدّثون… بل يكتبون على هواتفهم. اختفت الرائحة القديمة، واختفت الأحاديث العميقة، وصار المقهى أحيانًا فضاءً بلا روح، ولا سرد، ولا حنين.
-خاتمة:
في الزمن الجميل، كان المقهى منبرًا بلا ميكروفون، وصالة انتظار بلا تذكرة، ودفترًا مفتوحًا يُدوّن عليه الناس حياتهم بصوت الشاي، وصمت التبغ، وضحكة تعبر من طاولة إلى أخرى. ورغم ضيق الحياة آنذاك، كان المقهى أوسع من المدينة، لأنه يتسع للأرواح التي لا مكان لها إلا فيه.