
“-افتح الراديو شوي… عم يقولوا شي مهم!”
قبل أن تُغرقنا الشاشات والهواتف، وقبل أن تُنبت المنصاتُ آراءً لا تنتهي
كان هناك صندوق صغير… بصوتٍ كبير. اسمه: الراديو. لم يكن مجرد جهاز إلكتروني، بل كان شريكًا في الفطور، ورفيقًا في السفر، وحارسًا للهدوء قبل النوم.
كان الرفيق الموثوق به في زمن كثرت فيه الأسئلة، وقلّت الإجابات.
-الصوت الذي يربط المدن والقرى:
من أقصى القرية إلى قلب العاصمة، كان الصوت نفسه يُسمع:
الأخبار تُقرأ بنبرة موحدة. الأغاني تُبث في التوقيت ذاته. والبرامج الثقافية والفكاهية والسياسية كانت تُشكّل وعيًا جمعيًا لا يُستهان به.
كانت الإذاعة جسرًا شعبيًا يربط أبناء الوطن الواحد بلغةٍ واحدة، ونغمةٍ واحدة، وإيقاعٍ موحَّد.
-بين التوجيه والتنوير:
الإذاعة في “الزمن الجميل” لم تكن حيادية أبدًا. كانت تُدار من قبل الدولة وتخضع لرقابةٍ صارمة، خصوصًا في النشرات السياسية، وفيما يُسمح بقوله أو حتى بهمسه عبر الأثير.
لكن رغم ذلك، كانت هناك برامج فكرية وأدبية وشعرية ودرامية وموسيقية تُدهش، وتعلّم، وتؤنس.
كان هناك من يكتب، ومن يُسجّل بصوته، ثم يُبَث عمله. نعرف اسمه دون أن نعرف وجهه. لكننا نعرف أنه أشعل فينا شيئًا حيًا…من وراء ميكرفون.
-أصوات لا تُنسى:
كان صوت المذيع جزءًا من هوية الإذاعة، وصوت المذيعة يحمل رنةً لا يخطئها القلب. منهم من أصبحوا رموزًا ثقافية، لا لأنهم قالوا كلامًا كبيرًا، بل لأنهم عرفوا كيف يقولونه، ومتى يسكتون.
المستمع لم يكن يتلقى فحسب، بل كان يُصغي كما لو أنه يشارك في السر، وكان صوت الأثير أكثر حميمية من كثير من الأحاديث الواقعية.
-الإذاعة… ذاكرة الأزمات والمسرّات:
في الحرب، كانت الإذاعة هي المصدر الوحيد للخبر… وللشائعات أيضًا.
وفي الأعياد، كانت الأغاني القديمة تبكي الناس من الحنين. حتى النكات، والتمثيليات، وبرامج الأغاني المهدَاة، كانت وسائل لبناء نسيج عاطفي مشترك بين الناس، خاصة حين لم يكن هناك غير الأثير وسيلة للوصل.
-أين هي الإذاعة اليوم؟
ما زالت موجودة، نعم.
لكنها فقدت وهجها، واحتكارها، ومكانتها الطقسية. أصبح الناس يسمعون ما يريدون، وقتما يشاؤون. الأصوات باتت كثيرة… إلى حد الضياع أحيانًا.
ومع “البودكاست”، والراديو الرقمي، عادت بعض التجارب المدهشة، لكنها لم تعد جماعية كما كانت، بل أصبحت “خاصة”، “فردية”، “متعددة”، وربما فاقدة لذلك الهمس الجماعي الحميم الذي كان يملأ الروح كل صباح.
-خاتمة:
الإذاعة لم تكن فقط وسيلة إعلام، كانت مرآة زمنٍ له نبضه الخاص، وصوتًا يجمع المتباعدين، وذاكرةً تحفظها حناجر لم تعد على قيد البث.
في “الزمن الجميل”، كانت الإذاعة تُسمَع لا لملء الصمت، بل لأن فيها حياة.
واليوم، رغم كل التقدّم، نفتقد ذلك الصوت القريب… الذي كان يهمس لنا لا في الأذن، بل في القلب.