
عادل النعمي (كاتب وناقد)
اسمه منذر ابن عازب، ولد مرتين… المرة الثانية هي المهمة، حينما استيقظ بذاكرة كاملة لا تخصه، كان يتكلم عدة لغات وهو طفل, وجلس في مجلس أبيه الشيخ يحكم بين الناس وهو لم يبلغ العاشرة… لا ينام، وطوال الليل يهيم على وجهه في الصحراء، وفي طلوع الفجر، يجد نفسه كل ليلة يقف في منتصف غرفته، دون أن يتذكر كيف عاد.
في ليلة وهو في طريقه المعتاد، وقع بصره على بئر لم يره من قبل! على الرغم من أنه عاش في القرية أربعين سنة، أو ربما أقل أو أكثر.
اقترب من البئر، نظر إلى قاعه فلم يجد ماءً، بل سحابة ليلية متحركة تميل إلى اللون البنفسجي، فيها ظلّه بلون أبيض يتلوى ويتفكك، ثم يتحول إلى طفلة صغيرة تلوّح له بيدٍ شاحبة، وتغرس في الهواء كلمات صامتة، يسمعها داخل قلبه بوضوح: أنا أنت قبل أن تندم.
فجأة، ظهر حوله ثلاثة: رجل وجهه يذوب كالشمع بنار تدور حوله… آخر يرتدي معطفًا من دخان أسود كثيف وهو يقف داخله كضوء… ثالث لا يرى إلا عند رمشة عين… نظروا إليه كأنهم حراس البئر وشعر من ملامحه أنهم ينون على أسره.
قال الأول: نجعله يعيد كل اللحظات، في كل حيواته كما هي.
قال الثاني: نمحِها من ذاكرته كلها.
قال الثالث: نزرع له ذكرى لم تحدث.
ضحك الأخير! وكل هذا وهو متعجب مما يدور حوله… وفي حين لم يتفقوا، ظهر رابع وهو ينادي: تشركوني في هذا العبد إن كان حديثي عجباً… فضحك هازئا من هذه الحماقة، وهو سيد هذه الأرض من أقصاها إلى أقصاها…ولكن دب فيه الخوف حين رآه وقد جاء يمشي فوق سطح الماء، وليس ثمة من ماء في ذلك المكان، وكلما اقترب، ارتدّوا عنه، وتراجعوا إلى الخلف ـ كما تتراجع الحيوانات حين تشمّ رائحة شيء ليس من هذا العالم.
أضلاعه بارزة جافة، ليس بها لحم داخلها غربان سوداء بوجوه قردة تتقافز، وتقرع على أضلاعه بمطارق من نحاس…
وجهه كله خطوط دقيقة، شقوق تتحرك وحدها، تنفتح وتغلق، من أحد جانبي الوجه تتدلّى عين واحدة… ليست عيناً بشرية، بل كرة لحمية شفافة تدور وحدها، وفي الجهة الأخرى، تجويف عميق، يظهر فيه قلب رمادي ينبض برجفة.
وفمه… كان بالعرض، وفي عمقه تتحرك أسنان كثيرة جداً، أسنان طويلة، غير متناسقة، تُحدث صريراً بطيئاً كلما حرّك رأسه
حين وقف أمامهم مباشرة، لم يسألهم. بل خرجت “نعم” من أفواههم بلا وعي، كأن الهواء في صدورهم صار ملكاً له وحده.
فقال ذلك الرجل:
ـ كنتُ تاجر أرواح بين عالم الأحياء وعالم الأموات، اقايض أرواح الأحياء بأمنياتهم، لتزيد في عمري!
ذات فجرٍ، جاءتني روح امرأة ماتت ولم تُدفن، كانت تبكي دون صوت، وتكتب فوق الهواء أسماءً لا تخصّها، حاولت أن اساعدها، فرفضت.
قالت لي بلا فم: (اسقِني) فبحثت عن صورتها في المرايا القديمة، فلم أجد لها ملامح، على الأقل حاولت أن أعيد لها ظلّها… فانعكس وجهي مكانها، ومنذ ذلك اليوم، لا أمتلك ظلًا، بل كل يوم يرافقني ظلّ شخصٍ آخر، وأعيش ما كتمه، وأنام بما ندم عليه، وأشيخ بما لم يقله.
عند هذه الجملة، سقط قميصه وتحول إلى وميض برق، ثم تلاشى في هواءٍ أزرق، كان الرجل كأنه لم يكن، أو كأنه عاد إلى هيئته الأولى.
ظهر خامس من العدم لم يسألوا من أين أتى، بل لماذا تأخر، أتى تتثاقل خطواته كأن الأرض تُسحب تحته، لا يمشي بل ينساب بجسد كله جراح تنزف، طويل على نحو غير مريح، ملتفّ بجلدٍ شاحب يشبه خرائط بنية قديمة منقوش عليها أماكن، تآكلت حدودها، كتفاه مكسورتان نحو الداخل.
رائحته خليط من الحديد البارد، والغبار الرطب الذي يخرج من قبور، لم تُفتح منذ قرون… أصابعه نحيلة أكثر مما ينبغي، تمتدّ ببطء مرتجف، وفي أطرافها أظافر ملتوية تشبه مسامير حديدية.
الأشد رعباً كان رأسه: وجه بلا عينين، مجوّف بظلام كثيف، وفي محجريه ساعتا جيب صدئتان تدور عقاربهما إلى الوراء، بسرعة ليست ثابتة، وكأنهما تحاولان ابتلاع اللحظة الحاضرة، وإرجاعها إلى ما قبل الخوف… وكلما اقترب، ازداد صوت احتكاك عقاربهما، حتى يتحوّل إلى طنين يشقّ نياط القلوب.
قال بصوتٍ كأنه يصدر من جوف الأرض: “كنتُ ادخل عقول المحتضرين آخر لحظاتهم، واقتات على تلك اللحظات”!
ذات مساء، سقط أحدهم في فوهة فتبعته، كانت تلك الفوهة بوابة زمنية لعوالم متوازية… وكل ما لقي نسخاً منه، ألتصق بها ثم فجأة توقفوا في مكان يطفو في فراغ معتم، ونبضوا كقلب، واحد ثم أطلقوا وجه طفل لم يُولد بعد، وقال لي بلا صوت: (أنا آخر من سيندم)، ومنذ ذلك اليوم، لم أعد اقتات على اللحظات… بل صرتُ أنمو إلى الوراء، وكلما خطوت، فُتح باب لماضٍ لم أعهده.
وما إن انتهى من كلامه، حتى انهارت الساعتان في وجهه، وسالت من مكانهما دمعتان بلون النحاس، ثم انكسر جسده إلى جمل غير مكتملة… تتطاير في الهواء، كأن كل حرف فيه كان يحاول أن يُكتب أخيرًا.
منذر لم ينبس ببنت شفة، وعند انتهاء حديثهم قال بصوت حازم: أنا حر ولا أحد يمتلكني، ولي مثل تحديكم إذا تجاوزتكم فأنا من سيمتلككم جميعاً ـ هذا هو الرهان ـ خسارة كلية أو مكسب كلي، فهزوا رؤوسهم (بنعم) ثم جعل ينظر إلى يديه التي بدأت تتلوّن، تتقلص وتكبر، تتشقق وتُجدّد، تحترق وتولد من جديد، كأن جسده لا يعيش في زمنٍ واحد بل في طبقات متراكمة من الحياة والموت.
في لحظات قليلة كان ينام شابًا ويصحو شيخًا، يضحك طفلًا ويبكي كهلاً، يئن في عمر لا يعرفه، يحترق كما تحترق الثريات القديمة، ولكن بلا بقايا له.
تدور حوله الفصول الأربعة… يغيب نهار مأسور، ويطلع ليل مهجور، وهو ينتقل بين الأزمنة… فهو الطفل، ثم الأب، ثم الزوج، ثم المجرم القاتل، ثم الميت الذي يحمله الناس دون أن يعرفوا اسمه.
سمع صوتاً خلفه ومع استدارته، اختفت الأرض تحت قدميه، وتحول المكان إلى فضاءٍ بلا نهاية، مليء بمرآة تعكس وجوهًا من لم يولدوا بعد، وأعمارًا لم تكتب.
رأى في زاوية بعيدة، كرسي يجلس عليه رجل… اقترب منه، فسمع صدىً خافتًا يتسرّب من عروق الأرض:“كنتُ أحلم بك… أنت العظيم الذي نسي أنه عظيم، إذا هبط على أيّ أرض، فهو ملكها”.
وما إن لمح الكرسي، حتى ارتعدت الجدران، وسُمع زئير قادم من أعماق الزمن، ركعت له الظلال التي مرّت به، والمخلوقات التي حاكمته، والوجوه التي استعارها في عمره المتشظّي… امتدت حوله دائرة من الأعمار، كل واحدة منها تنحني له كأنها تعترف: “نحن أنت… وأنت الآن السيد جميعاً”.
تبدلت هيئته، لم يعد منذر كما كان، صار جسده كتلة من الحقب، صوته يجمع بين همس أمٍّ، وصيحة فارس، وضحكة طفل في بطن أمه.
لبس عباءة من سحاب أسود، وتوّج رأسه بعمامة لا تحمل اسمًا، لكنها تعرّفها الملوك إذا هبّت ريحها.
سارت نحوه سبعة ظلال، يجر كل منها عمرًا منسيًا، وما إن اقتربوا حتى توقف الهواء، وتقلص الضوء كأنه يخاف مما سيحدث.
لم ينحنوا له، بل تجمدوا في دائرة حوله، كأنهم ينتظرون شيئًا أعظم منه ومنهم… وفجأة، انفتق الفضاء فوق رأسه بخط من نور أسود، وسقط منه ظل ثامن، لم يعرف أحد من أين أتى، ولا لماذا يشبه منذر نفسه في هيئة لم يعشها قط… وقف الظل بينه وبين الملوك، ونظر إليه بعينين ليستا عينين، بل نافذتين على زمن لم يُخلق بعد.
ثم صدر الصوت الذي لا مصدر له: “ليسوا هم من بايعوك، بل أنت من استدعيتهم دون أن تدري.”
فتفجرت الظلال السبعة كشرر صامت، دخلت جسده دفعة واحدة، كأنها تعود إلى مكانها الأصلي، وفي اللحظة نفسها، التفت الظل الثامن وغاب، تاركًا وراءه جملة محفورة في الهواء: “هذه ليست نهايتك، بل اللحظة التي تبدأ فيها أن تتذكر من كنت قبل أن تولد مرتين.”
وبقي منذر واقفًا وحده، محاطًا بصمت لم يعد صمتًا، بل قوة تشبه الفجر حين يسبق الشمس.