كنت بالأمس ضمن الحضور عبر تطبيق (زووم) في المحاضرة الثرية التي تناولت العلاقة بين الماسونية و العمارة و التي قدمها المهندس الدكتور علي الدباغ في استضافة (الغرفة 19) بتقديم من الأديبة المتميزة إخلاص فرنسيس.
المحاضرة من حيث التنظيم والحوار كانت على درجة من الرقي الفكري والنقاش الهادئ و هي سمة تميز (الغرفة 19) في مجمل برامجها…
على المستوى الشخصي خرجت بانطباع قوي مفاده أن المحاضر قصد تبرئة العمارة و هندسة البناء من الماسونية وفي الوقت ذاته تبرئة الماسونية من اللغط الذي يحيط بها أو على الأقل تقديم قراءة متوازنة لا تخضع لسطوة الشائعات و لا تتبنى الأحكام المسبقة..
و ربما كان الهدف الأعمق كما فهمت من السياق هو تفكيك الارتباط الذهني الذي ربط تاريخياً بين البنائين الأحرار والماسونية و بين الرموز المعمارية و النوايا السياسية أو العقائدية الخفية…
الدكتور علي الدباغ قدم محاضرته بأسلوب مبسط قريب من العامة دون أن يفرط في عمق الفكرة تدرج من المفهوم العام للماسونية إلى تفاصيلها التاريخية و الفكرية، موضحاً أن الماسونية الحديثة لم تنشأ من رحم العمارة كفن أو كممارسة مهنية بل استعارت من نقابات البنائين الأحرار (Freemasons) نظامهم النقابي واستغلاله في التنظيم والنظام الداخلي وشعاراتهم في الدقة والتكامل دون أن تكون امتداداًمباشراً لها ..أي أن العلاقة بين العمارة و الماسونية هي علاقة رمزية أكثر من كونها مهنية أو فنية .. وهذا التفريق الدقيق حسب فهمي المتواضع هو ما أصاب فيه المحاضر كبد الحقيقة…

ثم تناول الدكتور تعريف الماسونية وتاريخها مبيناً أن معظم ما يثار حولها من شبهات نابع من عنصر (السرية) الذي يحيط بتنظيمها و من التحريم الديني الذي صدر ضدها من الكنيسة الكاثوليكية والمسلمين سواء من السنة أو الشيعة .. تلك الثنائية (السرية و التحريم) جعلت الماسونية في نظر كثيرين كياناً غامضاً أو مريباً و قربتها ذهنياً من الصهيونية واليهودية العالمية ..
وزاد من ذلك أن الماسونية بحسب ما أشار إليه تستهدف في الغالب النخب الفكرية والاقتصادية والسياسية ذات التأثير الواسع و هو ما جعلها في الوعي الجمعي مرتبطة بالنفوذ والسلطة لا بالعمل الخيري فحسب …
ولا نزال نحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية والمسيحية ننظر إلى الماسونية بعين الريبة والشك متأثرين بخطاب طويل من (نظرية المؤامرة) و ربطها بالصهيونية و بمحاولات السيطرة على العالم .. غير أن المحاضرة أعادت التذكير بأن للماسونية أهدافاً معلنة و واضحة تختلف عن كل ما يُقال عنها ومن أبرزها:-
تنمية الإنسان أخلاقياً وفكرياً والبحث عن النور والمعرفة والتنوير الروحي والعقلي…
الدعوة إلى مكارم الأخلاق كالصدق والأمانة والتسامح…
خدمة المجتمع عبر التعليم والصحة والأعمال الخيرية…
الإخاء والمساواة بين البشر جميعاً دون تمييز في الدين أو العرق أو الطبقة الاجتماعية تحت شعار الحرية والإخاء والمساواة …
والابتعاد عن السياسة و الدين داخل المحافل الماسونية لتجنب الخلافات العقائدية والمذهبية …
وهي مبادئ في ظاهرها لا خلاف عليها بل إنها تتقاطع مع القيم الإنسانية العامة بل ومع المبادئ الأخلاقية للأديان السماوية نفسها …
ولعل اللافت في حديث الدكتور الدباغ أنه أشار إلى شخصيات فكرية بارزة في التاريخ الإسلامي الحديث يُقال إنها انتمت أو اقتربت من الماسونية مثل جمال الدين الأفغاني و محمد عبده وسعد زغلول و هي أسماء ارتبطت بالسياسة والفكر الديني قد يصعب الطعن في وطنيتها أو في إخلاصها الفكري والديني…
بل إن مجرد ذكر هذه الأسماء يفتح الباب لتساؤل مهم هل كانت الماسونية في مراحلها الأولى نادياً للنخبة الفكرية الباحثة عن الحرية والمعرفة، قبل أن تتحول إلى رمز للغموض والريبة في العصور اللاحقة .. و قد سأل بعض الحضور عن حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين و (شبهة) انتمائه للماسونية …
إلا أن الوجه الآخر هو ما جعل الماسونية (بعبعاً فكرياً) في نظر كثير من النقاد والمؤرخين فهناك من يرى أن لها أهدافاً خفية تتجاوز ظاهرها الإنساني منها :-
التأثير في مراكز القرار العالمي من خلال شبكات الأعضاء البارزين في مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام …
نشر الفكر العلماني أو الإنساني اللاديني الذي يجعل الإنسان مركز الكون …
الدعوة إلى العولمة وتأسيس نظام عالمي تحكمه (النخبة المستنيرة) بعيداً عن الحدود الوطنية والقيم التقليدية…
وبين هذين الوجهين المتناقضين تظل الماسونية لغزاً فكرياً وحضارياً مفتوحاً على التأويل فهي من جهة تدعي السعي نحو النور والمعرفة والأخلاق و من جهة أخرى تُتهم بالسعي إلى إعادة تشكيل القيم و المجتمعات على أسس جديدة قد تُفرغ الإنسان من جذوره الدينية والروحية…
رؤيتي شخصية كمسلم أجد أن الفكرة المعلنة للماسونية كما طُرحت في المحاضرة تقترب في بعض أوجهها من أفكار إنسانية و روحية وردت في الفلسفة الإسلامية طرحها وتبناها مفكرون اسلاميون تنويريون مثل مفهوم (الإنسان الكامل) أو التركيز على مفهوم (العمل الصالح) عند البعض كقيمة جوهرية تتجاوز الشعارات بل يمكن القول إن الماسونية في جانبها المثالي تشترك مع الإسلام في إعلاء شأن الأخلاق و الصدق و الإخاء الإنساني، غير أن الفارق الجوهري يبقى في المرجعية فالإسلام يجعل الله مركز الكون بينما تجعل الماسونية الإنسان مركزه …
اوضح المحاضر بجلاء ارتباط الفكرة الماسونية بالفترة الاستعمارية وانتشارها الواسع جداً .. و شخصي كسوداني اجد في تاريخنا السياسي كما سمعنا وكتب البعض عن أسماء كبيرة ارتبطت بالاستقلال والفترة الاستعمارية يُقال إنها كانت ماسونية الانتماء أو قريبة من الفكر الماسوني و كذلك عن بعض المفكرين الإسلاميين الذين تأثروا بجوانب من ذلك الفكر ولا أود هنا الخوض في الأسماء لأن الغاية ليست الاتهام بل الفهم والتأمل…
أظن أن هذه المحاضرة بما طرحته من جرأة و موضوعية تُعد خطوة مهمة نحو كسر التابوهات الفكرية .. غير أن مأخذي الوحيد عليها هو حظر النقاش الديني و السياسي في موضوع هو بالأساس شديد الارتباط بالدين والسياسة والاقتصاد فلو أتيح المجال لمداخلات تحمل وجهات نظر مغايرة لتضاعف أثر المحاضرة وازداد ثراؤها الفكري و التثاقفي و إن مثل هذه المساحات هي ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم من فضاءات للنقاش الحر الهادئ البعيد عن الاتهام و التخوين و القريب من التحليل و التأمل …
ختاماً تستحق الغرفة 19 كل التقدير لما تقدمه من محاضرات وموضوعات فكرية عميقة تتناول قضايا حساسة بجرأة ووعي…
وهي بما تضمه من محاضرين متخصصين ومشاركين متحضرين تقدم نموذجاً لنقاش راق بعيد عن الصخب والسطحية التي تغلب على كثير من ساحات الحوار اليوم إنها بحق مساحة للمعرفة الهادئة ولإعادة التفكير في المسكوت عنه من موضوعاتنا الثقافية والفكرية و الاجتماعية…

محمد طلب