“من فانكا الى تشيخوف” لغة مختلفة تكشف أوجاعا لعصر مختلف
رؤية نقدية : ياسر عبد الرحمن

اذا كان الكاتب مرآه لمجتمعه، فمن الصعب جدا ان يكون مرآه تعكس حكايات واوجاع مجتمع آخر، ولكن يبدو ان احدهم قد يختار الطريق الصعب، مثلما جرى فى رواية “من فانكا الى تشيخوف” للكاتبة د. سوسن الشريف
وهى العاشقة لكتابات تشيخوف، واستطاعت من خلال قصة رسالة فانكا الى جدة ان تنسج مجموعة رسائل تخيلية؛ تدورحول شخصية فانكا الذى كان يستغيث بجده من معاملة الإسكافى القاسية له، فبدأت فى رسم أحداث متداخلة مع الرسالة الأصلية، واضافت احداث وشخصيات تخيلية، مستمدة من حكايات واوجا وبؤس المجتمع الروسى فترة القيصر، ونستطيع القول ان مجموعة الرسائل التى تشكلت منها الرواية، تمثل تجديدا شكليا لمفهوم الفصول، وهو التقسيم الشائع داخل الرواية.
ونجد الكاتبة استحضرت رجل البريد؛ بكل ما يحمل من دلالات عند المجتمع، فهو حامل الأسرار والأحزان، والبشارة والشغف، فهو حامل الرسائل التى تتفاعل مع وجدان الناس.
واستطاعت الكاتبة ان ترسم أبعادا جديدة شاسعة، حول حدوتة صغيرة جدا، لطفل يشعر بالألم والاحتياج لجده، الذى يمثل له طوق النجاة، من خلال مجموعة رسائل، وجميع الرسائل التى كتبت بدءا من عام (1905) وواضح من هذا التاريخ أنه جاء بعد وفاة تشيخوف (1904) لتوكد الكاتبة على نقطتين، اولهم: ان الرسائل تنتمى لها كمبدعة، وليس لتشيخوف الملهم وثانيا: ان جميع الرسائل لن تصل بأى حال الى المرسل اليه، رغم حرص جميع ابطال الرواية من سعاة البريد على تسليمها، بدءا بفانكا البطل الرئيسى، وانتهاء بالحفيد نيكولاى ايفان اورلوف.

وجاءت اللغة الفصحى بملامح جادة، ولكن غير متقعرة، ولم تستخدم العامية فى الحوار نهائيا، حيث انها لا تتناسب مع هذا العالم الذى استحضرته من قراءات متعددة، لتتمكن من الكتابة عنه بكل هذة الدقة، فجاءت الرسائل بنفس مستوى اللغة للرسالة الأصلية، التي حركت مشاعرها، وفجرت داخلها نهر متدفق من الفيض الإبداعي، فمن يقرأ الرسائل يشعر بالتقارب الشديد فى اللغة، وتشابه العوالم فى طريقة تصعيدها للأحداث، ورسمها لملامح البؤس والألم في حياة ابطال روايتها، والتي تنصهر في لوحة مأساوية مع البطل الأصلي (فانكا).
وما تخيلته الكاتبة هومسار جديد لحالة فانكا مع الإسكافي المستبد، وما يشعر به من معاناه تدفعه الى كتابة رسالة استغاثة لجده قستنطين، فتبدأ الإمساك بطرف الخيط لتتخيل ان ساعي البريد اورلوف قرأ الرسالة بعد ان علم بوفاة الجد، فشعر بالشفقة تجاه الطفل فانكا وقرر مساعدته من خلال تدبير عمل له كساعي بريد، واحضره الى منزلة ليعيش مع أبنائه وزوجته بعيدا عن قسوة الإسكافى .
والحقيقة ان الكاتبة اوجدت الدعم والمساندة المادية والمعنوية من عالمها الخاص؛ الى الصغير فانكا، بدءا بأرلوف الذى انتشله من يد الإسكافى، ثم ايفان الذى اهداه قميصا ليرتدىه بعدما تعمد الإسكافى رمية بالقاذورات اثناء ذهابه الى العمل، وقبلهم كانت اوليجا ابنة الأسرة الغنية، والتي اهدته منديلا؛ ظل محتفظا به بعيدا عن اعين الجميع؛ يمده بالطاقة الإيجابية، وأيضا السيد ميلنيكوف المدير بمكتب البريد، الذى كان يهوى القراءة ويشترى المجلات فسمح لفانكا بقراءة هذه المجلات.
وشخصية مدير مكتب البريد المحب للثقافة شخصية محورية، لأن لولاها لما عرف الفتى الفقير من هو تشيخوف، ولا كان هناك منطق لكل هذه الرسائل، ولا كانت هناك رواية من الأساس ..
ولكن الكاتبة بمنطق الزمن المتردد، ذكرت قصة المجلات بعد مرور رسائل عديدة، ثم كشفت النقاب عن لحظة حب الفتى للكاتب الكبير، خاصة بعد ان وجد اسمة يتكرر في كتاباته، وبدأت فكرة شعوره بالانتماء اليه كأب روحي على الورق؛ لتتدفق بعدها الرسالة تلو الأخرة وتتجسد ملامح الرواية.
وقد انتهت مأساة البطل الأصلى لتشيخوف؛ على يد الكاتبة التى تعاطفت معه؛ لتصنع مسارا جديدا لأحداث أخرى من خلال رجل البريد (فانكا) وعالمه المكتظ بالرسائل والحكايات.. فجاءت بفكرة رسائل الى السماء التى تم صناعة صندوق بريد خصيصا لها، على يد فانكا واورلوف؛ لتفتح نافذة كبيرة لعرض اوجاع ومآسي هذا العالم الفقير البائس، الذى يعيش في طقس شديد البرودة، وحياه شديدة الفقر، فتجد فتاه تكتب الى السماء رسالة، تحكي عن شقيقها الذى مات لعدم قدرتهم على الذهاب الى طبيب، وعن عملها فى منزل احد الأغنياء؛ فتأخذ بقايا الخبز الجاف المتبقي من طعام الأحصنة لتأكله اسرتها الفقيرة، ونجد عجوز تشتكى طردها من غرفتها لعدم قدرتها على سداد الأجرة، وتتصاعد الأحداث ليظهر الإسكافى مرة أخرى مروضا كلب اخو الجنرال المتوحش، الذى يعشق قطم الأحذية واتلافها، فيستغله للهجوم على الناس حتى يروج عمله فى اصلاح الأحذية، دون ان يهتم بالفزع الذى يبدو على وجوههم .
والإسكافى لم يكن الرمز الوحيد للفساد والظلم فى هذا المجتمع، فنجد العم سيرجى الذى يحتاج الى اجراء جراحة فى المفصل؛ يرفض الذهاب الى المستشفى، ويتهمهم انهم توابيت للموت، و لصوص يسرقون الأموال والطعام، فقد ماتت زوجته بين أيديهم، وكانوا يسرقون طعامها، ولا يهتمون بالعلاج، وحين تحدثت الكاتبة عن كلاب واحصنة مجتمع الأغنياء؛ الذي يحصلون على الطعام بوفرة؛ في حين الفقراء لا يجدون كسرات الخبز الجافة، وقد تركت الشرطة كلبا يثير الفزع فى الشوارع لكون مالكة شقيق احد الجنرالات.
وقد استخدمت الكاتبة تقنية متفردة فى عرض روايتها، وهى وصف المشهد الفنى الواحد من منظور متعدد، فنجد (فانكا) يكتب رسالته عن دخوله مسكن اورلوف؛ وشعوره بالحرج والانكسار؛ وعندما جلس على مائدة الطعام كان ينتظر ما تضعه السيدة (فيرونيكا) زوجة اورلوف من فطائر، ولا يرفع عينية، كما كان يرتدى قميصا اعطاه له ايفان ليلبسه حين يرميه الأسكافى بالقاذورات، ثم يأتى ايفان ابن اورلوف؛ فى رسالة اخرى الى تشيخوف؛ يصف نفس المشهد من منظور مختلف، وهى لحظة دخول الأب (أورلوف) ومعه فتى رث الملبس، ممزق الحذاء يشعر بالخجل والدونية والانكسار، وحين جلس معنا على مائدة الطعام، لم يرفع عينية الينا، ولا الى الطعام، وكان يأخذ بانكسار وشكر أى شيء يقدم اليه، كما أن (إيفان) لاحظ غضب شقيقة (ميخائيل) الذى توقع ان تقل حصته من الطعام، بعد حضور فانكا، مما جعل الأم تعطي ميخائيل من حصتها، حرصا على مشاعر فانكا، وهو ايضا يتعاطف معه ويعطه قميص جديد.
ونفس التقنيه الفنية تكررت، حين حكى (اورلوف) مشهد سؤال فانكا له، عن وجود رسائل، فشعر بالشفقة تجاهه، وسألة إن كان ينتظر رسالة من أحدهم، فأنكر خوفا من الإسكافي، فهذا المشهد حكاه فانكا، ثم حكاه أورلوف من منظور مختلف، واكثر اتساعا، فيبدو ان فكرة سرد نفس المشهد من عدة مناظير، يحقق الواقعة ويؤكدها، ويذكرني بتحقيق النيابة العامة، حين تستمع لعدة شهود يتحدثون عن نفس الواقعة، فكل شاهد يحكى من زاوية مختلفة، لتصل النيابة فى نهاية التحقيق، الى استجلاء الحقيقة، ومعرفة جميع تفاصيل وملابسات الواقعة.

ومن النقاط اللافتة فى هذة الرواية، هى استحضار الكاتبة لجميع التفاصيل الخاصة بهذا العالم، فاستحضرت معه مفرداته وصراعاته وعادته الشعبية، مثل القطة التى يدخلها المواطن الروسي في المنزل الجديد لعده أيام، ليطمئن ان المكان غير مسكون.
كما نجد مفردات مثل الكوبيك والربيلات التي تمثل عملات هذا الزمان، وتصف (التاتشا ) الذى هو المنزل الريفي، ونجد طعام الفقراء المتمثل فى كسرات الخبز والشاي بدون سكر، والفئة المتوسطة التي تملك دخل تأكل الخبز والفطائر وحساء الكرنب واللفت، والأغنياء يعرفون المربى والزبد ودهن الخنزير والحلوى، ولديهم مديرة منزل وطهاه وحارس، كما انها طرحت أسماء لشخصيات متنوعة، بعض هذه الأسماء ثلاثية، فهي بالفعل نجحت في استحضار تفاصيل هذا العالم، الذى يتحدد فيه المستوى المادي للأشخاص؛ بما يأكلون من طعام.
وقد استخدمت الكاتبة الزمن الترددي، فنجد الرسالة الأولى بدأت لفانكا، ثم رسالة لنيكولاي حفيد اورلوف، فى تاريخ بعد وفاه فانكا، ثم عادت بالزمن الى فانكا، ثم رسالة ايفان، وهكذا كانت تتحرك بالزمن ذهابا وعودة، واستخدام الزمن الترددي مسألة فى منتهى الخطورة، حيث من الممكن ان يرتبك الحدث؛ فيضل القارئ الطريق لفهم الحكاية، لكن ما جرى، أن الكاتبة كانت شديدة الحرص ألا يسقط القارئ فى هوه التشتت وعدم الفهم، فكانت تضع التفاصيل فى كل رسالة تضئ بها الطريق، وتضع الروابط، وتعيد بعض المشاهد بمنظور مختلف، فيظل القارئ الجالس على مقعده أمام الراوى حريص على الإنصات، يشعر بالشغف، ويجد فى الرسائل اجابات متلاحقة ترضى فضوله، وتروى شغفه، شريطة الا يحاول القفز الى النتائج بلعبة التوقع، حيث ان هذا النوع من الكتابات، لو حاولت استشراف النهاية تصل الى نتائج غير صحيحة.
وفكرة بناء رواية من مجموعة رسائل، تحكى احداث تتحرك عبر زمن ترددي، من عالم مختلف كليا عن عالمنا، نستطيع وصفها انها تجاوزت منطقة (جرأة الإبداع) الى منطقة (جنون الإبداع ) حتى وصلنا الى قمة هذا الجنون حين دخلت الكاتبة بشخصها؛ برسالة الى انطوان تشيخوف؛ تحت مسمى بطله اسمتها زهرة السوسن، كأنها دخلت متنكرة من خلال ارتداء نظارة شمسية، تمثل في تغير جزء من اسمها، وذلك فى الرسالة المؤرخة عام 2020 من القاهرة، فامتدحت كاتبها المفضل تشيخوف، وتمنت لوانها تسمع رأيه فى اعمالها، وابلغته انها تحب جميع مؤلفاته وشخصياته؛ حتى الزهور التي كان يحبها هى تعشقها، فهى تشعر بالغير تجاه اعجاب تشيخوف بأعمال مكسيم جوركي، فهي تتمنى ان ييبدى إعجابه بأعمالها، وانكشف جليا ان شخصية فانكا وحبه للكاتب وشعورة بالانتماء اليه، هو انعكاس لمشاعر حب وإعجاب الكاتبة؛ تجاه عملاق الأدب الروسى تشيخوف، فهى معجبة باعماله وأسلوبه وجميع تفاصيل حياته، ليدرك القارئ فى النهاية، من هو الأبن الروحى لتشيخوف … وهو الكاتبة ذاتها .
ودخول الكاتبة على هذا النحو، داخل جسد الرواية أثار تساؤلا جديدا، فلماذا لم تترك صفحة بيضاء ليكتب بها القارئ رسالة يوجهها الى هذا المبدع الرائع تشيخوف، فيكون القارئ ايضا جزءا من جسد الرواية، وأعتقد ان هذ المشهد لم يحدث من قبل؛ ولن يحدث بعد ذلك، ما هو الا لحظة جنون إبداعي لن تتكرر.
وجاء مفهوم الحب كخيط باهت الملامح بالرواية، فعندما صارحت نادينكا، وهى حب فانكا الأول، انها ستتزوج من آخر لديه مال ومنزل، لم يحرك ساكنا، او يصارحها بمشاعره كونه يحبها، حتى لو كان يعتقد ان الحب ترف لفقير مثله، وحين وجد فى بريد رسائل للسماء، رسالة من فتاه تصارحه بامنيتها بالبقاء جانبه، لم تذكر الكاتبة كلمة الحب صراحة، ولكن أشعرته بالرضا، رغم غموض الرسالة، التى لم تذكر فيها الكاتبة حتى اسم البطلة، وكأن السماء ارسلت له لحظة سعادة؛ من خلال فتاه تهتم به تعويضا عن اخرى تركته، وكذلك عدما ذهب الى اوليجا رفيقة الطفولة، والتى استقبلته بحفاوة، وامسكت بيده ولم تتركها، لدرجا اثارت تساؤلات الخدم، ومع ذلك لم يذكر أى طرف للأخر كلمة (احبك) اما الشئ الأكثر غرابة، هو ما جاء في رسالة الكاتبة لتشيخوف من القاهرة (2020) فتقول على لسان البطلة زهرة السوسن : (ولولا خجلى لأضفت الكلمة الوحيدة التى تصف مشاعري تجاهك) وكأن التصريح بالحب مسألة يحاسب عليه القانون فكان التلميح هو ما يتم استخدامه
والحقيقة ان الكاتبة اختارت طريقا صعبا لصناعة عمل فني، لكنها نجحت فى النهاية في ان تكون مرآه صادقة لعالم لم ولن تسكنه، ولكن يظل الفنان النبيل قادرا على التحليق بروحة في أي عالم شاء، عبر حواجز الزمان والمكان.