
الكاتب مروان ناصح
في “الزمن الجميل” كان الكاتب يعيش مع الكلمة،كما يعيش العاشق مع حبيبته:
يتهيّأ لها، ويتهيّب منها، وينتظر منها وعدًا لا يخيب. كانت الكتابة فعلًا من طقوس النقاء،
تبدأ بالورقة البيضاء وتنتهي برسالة مختومة تُلقى في صندوق البريد، ثم انتظار طويل يشبه زمن الحلم.
وكان الرفض آنذاك نوعًا من القبول؛ فأن تُقرأ لتُرفض، معناه أنك وُجدت.
-طقس الكتابة القديمة:
في تلك الأيام، كانت الكتابة طقسًا مقدّسًا، يُمارَس ببطءٍ يشبه الخشوع. كان الكاتب يجلس أمام الورق كمن يجلس أمام قدره. ينقّح الكلمة، ويعيد النظر في الجملة، كأنّه يوشّي قصيدة العمر الأخيرة. ثم يبعث بها إلى المجلة أو الجريدة، وينتظر الحكم كما ينتظر المسافر إشارة العبور. كان الانتظار جزءًا من المعنى، والبطءُ شرطًا للجمال.
-أين ذهب القارئ العارف؟
ذلك القارئ الذي كان يكتب إلى الأديب رسالة من خمس صفحات، يناقشه في الأفكار، ويشير إلى مواضع الجمال، ويقترح بصدقٍ المحبّ…رحل. من كان يقرأ القصيدة مرّتين قبل أن يحكم، اختفى. من كان يدوّن الملاحظات على الهامش، أو يقتني المجلات الثقافية ليقرأها في ضوءٍ خافت، لم يعد موجودًا.
-الكتابة نداء بلا مستجيب:
الكتابة، في جوهرها، حوار بين روحين:روح الكاتب وروح القارئ. وحين يُكسر هذا الجسر، تغدو الكتابة مناجاة في صحراء. الكاتب لا يطلب التصفيق، بل الإصغاء، لا يبحث عن المديح، بل عن الأثر. وما أقسى أن تتحول الكلمة إلى نداء لا يُجاب عليه، إلى نبضٍ يضيع في زحام الأصوات المكرّرة.إنها مأساة الكاتب الحديث الذي يتحدث إلى مرآةٍ مغطّاةٍ بالضباب.
-خسارة القارئ الداخلي:
كان الكاتب يحمل في داخله قارئًا يزن المعنى قبل أن يكتبه. ذلك القارئ الباطن كان ضميره الأدبيّ، ومرآته الصافية. وحين دخل الكاتب عالم الأرقام والإحصاءات، فقد هذا القارئ. صار يقيس حضوره بعدد “الإعجابات”، لا بعمق الأثر، ففقد الدهشة الأولى، وتاه في متاهة الضوء البارد.
-النصّ الصامت والكاتب الصارخ:
النصوص الحديثة تُلقى في فضاء المنصات، كما تُلقى الحجارة في بئرٍ عميق. لا يُسمع لها وقع، ولا يُعرف لها صدى. الكاتب يكتب، ويشارك، وينادي، ويعلّق، كمن يبحث في العتمة عن قنديلٍ مطفأ، حتى عبارات الشكر باتت ميكانيكية، بلا حرارة ولا نية، والنقد غاب كما يغيب الضوء في المدن المزدحمة. لقد فقدت الكتابة بُعدها الحواريّ، وصارت مثل صرخة في نفقٍ لا رجع لصداها.
-خاتمة:
في هذا العالم المزدحم بالكلمات، قد تكون أقسى مأساة للكاتب، أن يكتب شيئًا صادقًا وجميلاً،
ثم لا يسمع عليه سوى رجع صدى قلبه.
الكتابة بلا قارئ تشبه صلاة بلا جدوى، ونداءً بلا رجاء.ومع ذلك، يظل الكاتب يكتب…
لأنّ الكتابة قدره، وملاذه الأخير، وسبب بقائه في عالمٍ يزداد صمتًا يوما بعد يوم.