إخلاص فرنسيس
حين تكتب المرأة، لا تكتب بالحبر فقط، بل بشيءٍ من قلبها أيضًا.
كلّ جملةٍ منها تحمل ظلالًا من تجربة، وكلّ كلمةٍ تشي برؤيةٍ مختلفة للعالم، كأنها تحاول أن تقول: هاأناأرىالحياةبطريقتي.
لقد أصبح صوت الكاتبة اليوم جزءًا حيًّا من النسيج الأدبي الإنساني، لا يكتمل بدونه المشهد. ومع ذلك، يظلّ السؤال حاضرًا:
هل يكفي أن تكون الكاتبة امرأة حتى يُقال إن ما تكتبه هو “أدب نسائي”؟
ربما الجواب ليس في الموضوعات ولا في المواقف، بل في الذات التي تكتب.
فهوية الكاتبة هي التي تمنح النص نبضه المختلف، نَفَسه الخاص، وإحساسه العميق بالحياة.
حين نقرأ نصًّا كتبته امرأة، نحن لا نقرأ موقفًا فكريًا بالضرورة، بل نقرأ حياة تُروى من زاويةٍ أخرى.
المرأة ترى التفاصيل الصغيرة التي تمرّ عابرةً في نصوص الرجال — نظرة، ارتعاشة، صمت، رائحة قهوة في صباحٍ طويل.
كل هذه الأشياء تتحوّل في كتابتها إلى معنى، إلى لغةٍ تشبه الهمس أحيانًا، والاعتراف أحيانًا أخرى.
الأدب الذي تكتبه المرأة لا يقوم على الدفاع عن حقوقها فقط، بل على الاعتراف بوجودها الإنساني الكامل، وبأن لها طريقة خاصة في رؤية العالم، لا تقل عمقًا ولا جمالًا عن أي رؤية أخرى.
ليس كل ما تكتبه المرأة دعوة أو احتجاجًا، فبعض النصوص لا تريد أن تغيّر العالم، بل أن تفهمه وتتصالح معه.
قد تكتب روايةً عن الحب، أو عن الفقد، أو عن انتظارٍ طويل، ويظلّ النص نسائيًا لأنه يحمل بصمة روحها، لا لأنه يتحدث عن قضايا النساء.
إنها كتابة تعكس الوجدان أكثر مما تعبّر عن الموقف، كتابة تهمس بدل أن تصرخ، لكنها تترك أثرًا لا يُمحى.
طوال قرونٍ طويلة، كانت المرأة تظهر في الأدب كصورةٍ في نصّ الرجل — ملهمة، أو معشوقة، أو رمزًا.
لكن حين أمسكت القلم، تحوّلت من موضوعٍ للحكاية إلى صانعتها.
كتبت لتقول ما لم يُقل، لتعيد رسم ملامحها بيدها، وتعرّف ذاتها من جديد.
لقد استعادت مركزها في الحكاية، لا لتزيح أحدًا، بل لتجلس إلى جواره وتقول: ليأيضًاقصةتستحقأنتُروى.
في الأدب العربي، نساءٌ كثيرات فتحن الطريق بصوتٍ شجاع وحساس:
مي زيادة جعلت من الفكر حوارًا بين الحلم والعقل،
غادة السمان كتبت الحرب والمنفى بصدقٍ يوجع،
فدوى طوقان جعلت من القصيدة بيتًا للمقاومة والبوح.
كلّ واحدة منهن لم تكتب عن المرأة فقط، بل كتبت من داخلها — من أعماق التجربة، من وجع السؤال، من شغف الحياة.
الأدب الذي تكتبه المرأة ليس لونًا هامشيًا في اللوحة الأدبية، بل ضوءٌ يُكمّل المشهد.
هو أدب يضيف إلى اللغة رهافةً جديدة، وإلى الفكرة دفئًا إنسانيًا خاصًا.
وعندما نقول إن المعيار فيه هو الكاتبة لا الفكرة، فإننا نعترف بأن الكتابة التي تخرج من عمق التجربة النسائية هي بحد ذاتها قيمة جمالية وإنسانية.
فالمرأة الكاتبة اليوم لا تكتب لتُثبت وجودها، بل لأنها تعرف أن الكتابة جزء من هذا الوجود نبضٌ صغير في قلب الإنسانية، لا يمكن للعالم أن يستغني عنه.