
الأستاذ الدكتور قاسم المحبشي
لم يكن الشعر الشعبي العربي إلا تعبيراً عن مكنونات النفس ودخائلها. نبع من الممارسة اليومية الحية المباشرة للعيش في كنف هذه البيئة الطبيعية القاسية، ففي هذا النمط من فنون القول والتعبير أودع الشعراء من مختلف المجتمعات المحلية العربية خبرتهم ومعرفتهم للحياة وتصوراتهم عنها في سياق ممارستهم المستمرة وصراعهم الأزلي معها، ففيه تظهر آثار أنماط السلوك والعادات وطرز العلاقات التي تربط بينهم، وتذوقهم الجمالي وقيمهم الأخلاقية وما يؤمنون به من معتقدات وأساطير وما يطمحون إليه من أحلام وآمال ورغبات، وطرق تخاطبهم مع بعضهم البعض ومع الآخرين، وطبيعة الأحداث التي مروا بها ووعيهم الذاتي لتاريخهم.كتب عالم الأنثربولوجيا الثقافية الأمريكي هوتيمان “أن الأدب الشعبي ينبعث من عمل أجيال عديدة من البشر، من ضرورات حياتها وعلاقاتها، أفراحها وأتراحها، آمالا وأحلامها، وأما أساسه العريض فغريب من الأرض التي تشقها الفؤوس، وأما شكله النهائي فمن صنع الناس المغمورة المجهولة أولئك الذين يعيشون لصق للواقع” بهذا المعنى يمكن القول أن الشعر الشعبي هو الملحمة الشعبية التي تروي سيرة حياة الجماعات بكل تفاصيلها، حيث تكشف القصيدة بطريقة لا شعورية عن بيئاتهم وعلاقاتهم وعواطفهم وأفكارهم وحاجاتهم ورغباتهم وأوهامهم وآمالهم وتعبر تلقائياً أساليب تدبير شروط عيشهم في بيئتهم الطبيعية والاجتماعية وعن منافساتهم وحروبهم وانتصاراتهم وأفراحهم وأحزانهم، حبهم وكرههم، غضبهم وسرورهم، أنه أي الشعر الشعبي أغنية الأرض المنتزعة من أرضها. والباعث في الشعر الشعبي للمجتمعات المحلية يمكنه أن يرى كيفية تعامل الناس مع الحياة والموت، مع الزمان والمكان، مع الخير والشر، مع الحب والكره، مع النساء والأطفال، مع الأفراح والأتراح مع الجد والهزل مع الحق والباطل مع الجمال والقبح مع الذاكرة والهوية والانتماء مع الذات والآخر، مع الوطن والقبيلة، مع الصديق والخصم، فهو مستودع الروح وحافظ أسرارها. لاحظ الدكتور فلاح مللر في دراسة المهمة للشعر الشعر العربي والقصيدة اليافعية حقيقة الروح الثقافية لسكان هذه المنطقة الجبلية القاسية، إذ لما كانت يافع بحكم طبيعتها الجغرافيّة الوعيرة وعشقها الدائم للماء والمطر كيف أن المادة السائلة تتكرر دائماً في القصيدة اليافعية، فنادراً ما تخلو قصيدة شعبية في ذكر شيء سائل، رعد، مزن، غيث مطر، سيل، ممطر ورد، قهوة.. الخ. المهم هناك عنصر سائل دائم الحضور في مفردات القصيدة اليافعية سواء كان مباشراً أو رمزاً( ينظر، قاسم المحبشي، الشفاهية والكتابية في القصيدة اليافعية، مقاربة نقدية في دراسة فلاج ميلر، مجلة أنثربولوجيا الصادرة عن مركز فاعلون للدراسات ٢٠٠٦)
ففي كتبه المهم بعنوان الدور الأخلاقي للشعر الشعبي العرب الصادر عن مركز الدراسات الشرقية بجامعة هارفرد، ترجمة مركز عدن للدراسات التاريخية وجد فلاج أن أكثر أنواع الشعر أهمية في يافع هي: شعر الحنو والشفقة، شعر الحب والغزل، شعر الفخر والحماسة، شعر الحكمة والموعظة، شعر التصوف والروح، وشعر الحنين إلى الوطن إذ يتميز الشعر الشعبي اليافعي بتنوع أغراضه واختلاف مهامه في الماضي والحاضر، حيث يمكن رؤية جملة من المتغيرات التي حدثت على البنية الكلية للشعر اليافعي من الماضي إلى الحاضر، وهذا يعود إلى اختلاف ظروف الحياة الاجتماعية وتغيرها من عصر على آخر، أما من حيث شكل القصيدة فيمكن القول بأنها حافظت على طبيعتها التقليدية العمودية.
أن الوظيفة التي كانت للشعر في الماضي هي التي ساعدت على احتلاله هذه المكانة المتميزة في قلوب اليافعيين منذ القدم، حيث كان يؤدي وظائف عملية حيوية متنوعة، فقد كان حتى وقت قريب أفضل وسيلة للتخاطب بين الناس، فهو وسيلة إبلاغ، وإعلان للمواقف، كما أنه وسيلة لتبادل التهاني أو للتعبير عن الغضب، وكثيراً ما سمعنا عن الحالات التي كان لبيت واحد أو بيتين من الشعر دوراً حاسماً فيها سلباً أو إيجاباً، فيمكن للشاعر أن يثير فتنة أو يطفيها، وكثيراً ما خدم الشعر في حل المشكلات الاجتماعية المستعصية، كقضايا الثأر والحروب القبلية. هذه الوظيفة الحيوية للشعر كانت سبب رئيسي لازدهاره في يافع، وكما أن الحوار بين الناس والسجالات الحامية بين الشعراء الشعبيين في الأعياد وأفراح الزواج والمناسبات الجمعية كان لها دور أساسي في شيوع الشعر في يافع وانتشاره الواسع بين الناس كمكون أساسي من مكونات ثقافتهم. وقد ساعد الكاسيت على انتشار الشعر الشعبي اليافعي في عموم الوطن اليمني كله والجزيرة العربية، فلا تخلو مدينة يمنية من وجود أشرطة الشعر الشعبي اليافعي.ويرى فلاح مللر إن تقاليد الثقافة الشفاهية هي التي تفسر هيمنة الكلام المنظوم في نختلف فنون القول الشعبية، حيث نلاحظ أن البنية الشعرية تتحكم بنمط واسع من الأنماط الثقافية الأخرى في يافع، ومن ذلك يمكن الإشارة إلى الزامل والمحازي والأمثال والتهاليل الدينية.الزوامل أحد أشكال فنون القول المنظوم وأكثر تأثيراً في حياة الناس، وعادة ما يرتجل الزامل من وحي اللحظة ليعبر عن طبيعة المقام. وللزامل وظائف متعددة في يافع من شحذ الحماسة أو الدعوة إلى لعمل والحرب وفك النزاعات والخصومات بين المتخاصمين، أو إثارة مشاعر الجماعة وشحن طاقاتها الانفعالية… الخ.
