المبيّض* يوسف طراد
17 سبتمبر، 2020
النشرة الدولية –
رجلٌ قادمٌ من العهود القديمة، يصرخ من على المطّل (يلا ع المبيّض، دوّرنا المبيّض)
غالبًا كان يأتي صيفًا بين شهري تموز وآب من كل عام، قبل تحضير المؤن؛ فجميع (المواعين) من النحاس، ويجب أن تكون (مبيّضة) خالية من الزنجار لحسن الاستعمال.
هل رأت أعينكم مثله؟ يمشي على الطرقات يسبقه صدى صوته، ويتبعه (شوالان) متدليان على كتفه، واحد للعدّة، وآخر لجمع الأدوات المراد تبييضها. شعره أشعث كأنه كاهنٌ لعبادة الأفعى أو العجل، عينان تلمعان داخل دائرتين سوداوين كأعين الضبع في الظلام. ينتقل من قرية إلى أخرى دون إستحمام، وتتكدس آثار الدخان على محيّاه، فتحسبه من رجالات كهوف ما قبل التاريخ.
تقرقع النحاسيات، وتجتمع في الشوال بعد أن تُحسب تكلفتها مع العرض، فتبييض المقلاة مع (الدسّت) مجانًا، و(السطيّلة) مع الطنجرة و(اللّكن)، وثلاث ملاعق مع (الدلو).
يستقر أحمد المبيض تحت مشمشة أبو كرم جنوب الكنيسة. عدّته بسيطة: جورة في التراب بعمق نصف متر تقريبًا، (يُدلق) فيها بعض الفحم الحجري، ومنفاخ يدوي يُحفر لفتحته إلى أن تصل قعر الجورة، ويُطمر الساق في التراب، وتبقى مسكة شبيهة بمسكة مطحنة القهوه على جانب الحفرة. و(قداحة فتيل)، يُصدر صوّانها، عند ضربه بدولابٍ مسننٍ صغيرٍ، شرارات كشهب السماء، فيلتهب الفتيل المبتل من ماء النفط، ويقرض العشب اليابس المبطوح فوق الفحم الحجري بعضًا من ناره.
منفخ يعمل لإذكاء النار، وكأن صاحبه استحصل على شهادة اختصاصه من جهنم. من ضمن العدة ايضًا ملقطٌ غليظٌ طويل المسكات، متوسط الطول عند حافتي الالتقاط، يُمسِك بالطنجرة امساكًا محكمًا يبرمها على النار كأن فك تمساح التقطها بقوة ورقص معها رقصة الموت.
للعدة تكملة وهو الرمل الذي يفرك به داخل الإناء جيدًا ثم يُغسل الإناء يُفرك بماء التوتيا (ZNX2) لتزول الشوائب والقصدير القديم.
يُحمّى النحاس إلى درجة معينة، وتُبرم قطعة القصدير، فتذوب داخلًا، ويُفرك بسرعة بواسطة القطن الأبيض المائل إلى السمرة على كل جوانب الطنجرة، فتخرج من سواد الحفرة بيضاء ناصعة، كخروج كليوبترا من حمام حليب.
انتبهوا إذا أردتم أن تطبخوا بأواني النحاس، إندهوا أحمد المبيّض، لكنكم لن تجدوه، لأنه يرقص على أنغام الماضي، فقصديره أصبح طلاء أدوات (التيفال) في منازلكم.
Mon liban