تعالى صياح (خديجة) من آلام المخاض، كان صراخها مدوياً كأنه الرعد، قالت لها جارتها بصوت متوتر:
ـ هيا.. ادفعي بقوة.. ادفعي.
طفقت إحداهن تمسح ما يتصبب من العرق على جبينها، تمتمت باضطراب:
ـ يا رب.. كن في عونها يا رب.
ارتفع في المكان بكاء الطفل، حملته إحدى النسوة ثم قالت بخيبة أمل:
ـ رباه.. إنها أنثى.
أخذت إحداهن الطفلة ثم همت بغسلها. وهي تهمس في أذن إمرأه بجانبها:
ـ ملامحها تبدو غريبة.. إنها لا تشبه أحداً من الأسرة!
رفعت (خديجة) يديها للمرأة وهي تقول بوهن:
ـ أعطيني إياها.
سادت لحظة من الصمت. اقتربت المرأة نحو (خديجة) لتعطيها الطفلة. التقطتها وتأملت ملامحها، ترقرقت عيناها بالدموع ثم قالت:
ـ سأسميها (بركة) لأنها هدية من الله.
همت (خديجة) بإعداد وجبة الغداء، فخطت نحوها (بركة) وهي تقول:
ـ أمي.. لماذا لا يلعب معي أولاد الجيران؟
شرعت الأم بتحريك الطعام في القدر بصمت. اقتربت منها أكثر وهزت كتفها قائلة:
ـ أمي..
ارتفع صوت أبيها قائلاً بغلظة:
ـ اقبعي في مكانك.. ستسببين لنا المشاكل.
انكمشت (بركة) على نفسها، فرمقها بغيظ وهو يقول:
ـ هذا هو رزقي في الحياة.. ابنة مجنونة.
التفتت(خديجة) نحوه قائلة بغضب:
ـ لا تتكلم عن ابنتي هكذا.
قال بسخرية مريرة:
ـ هذا كلام الناس.. ليس كلامي أنا.
وقف أمام المرآه وهي يلف رأسه بغترته المهترئة.زفر بضيق ثم استدار إليها قائلاً:
ـ لا فائدة من علاجها.. لقد سمعت بنفسك ما قاله الطبيب الوافد من الهند: ابنتك لديها تخلف عقلي، لا جدوى من اختلاطها مع الناس سوى جلب المشاكل والقيل والقال.
ثم أشار إليها بسبابته محذراً:
ـ لقد قلتها لك مراراً وتكراراً.. إياك أن تتركيها خارج البيت.
ثم انصرف من المكان صافقاً الباب خلفه بقوه.
* * * *
تأملت (بركة) بحسرة أطفال الجيران وهم يلعبون في الحي. مطت شفتيها وهي تحادث نفسها:
ـ لماذا يرفضون اللعب معي؟ لماذا يبتعدون عني حينما أقترب منهم؟
خفضت رأسها بانكسار قائلة:
ـ أحيانا أسمع أمهاتهم يقلن لهم: لا تلعبوا معها.. لا تقتربوا منها.. ولكن لماذا؟
فجأة.. اشتمت رائحة حريق، دفعها الفضول لتعرف مصدره. توجهت نحو حوش البيت لترى والدها يجمع سعف النخيل الجافة ليضعها فوق بعضها البعض والنار تشتعل بها. حمل قنينة كبيرة وصب السائل الذي تحويه فوق تلك السعف، بلغ بها الفضول مبلغه. ماذا يفعل أبي يا ترى؟ وما هذا السائل؟ هل هو ماء؟
شهقت وهي تضع كلتا كفيها على فمها، وهي تشاهد ألسنة اللهب المتصاعدة التي كانت تأكل تلك الكومة بشراسة، سعلت بشدة بفعل الدخان الكثيف، ثم هرولت لتعود أدراجها الى داخل البيت.
بعد أن حل المساء وأوى الجميع إلى فراشهم،تسللت إلى حوش البيت لتبحث عن القنينة وعود الكبريت. وبعد البحث هنا وهناك وجدتها جوار إحدى النخل، حملتها وتوجهت بها إلى الحقل.
كانت تشعر برغبة في إضرام النار بالأشجار تماماً كما فعل والدها. بدأت بسكب ذلك السائل،ثم رمت عود الثقاب فيه. اشتعلت النيران بسرعة البرق وبدأت تنتشر لتغطي الزرع والحقل وكل شيء!
خرج أهل القرية من بيوتهم: رجالهم ونساؤهم وأطفالهم وحتى مواشيهم. ساد الهرج والمرج في المكان. كانوا يحاولون إطفاء النيران بكل ما أوتوا من قوة، ولكن دون جدوى.
اختبأت (بركة) خلف إحدى الصخور الكبيرة، وهي تتأمل المشهد بعينين متسعتين وابتسامة بريئة.