إعداد: مريم محمود سرور[1]
تُعدُّ رواية امرأة في مهب الأزرق للأديبة اللبنانية تمارا شلهوب[2]، الصادرة في بيروت، في العام 2023 عن دار البيان العربي، من الأعمال الاجتماعية العميقة التي تغوص في تعقيدات واقع متشابك، حيث تتبدى الظروف التي تحيط بالشخصيات كمرآة تعكس صورة مجتمع متغير ومضطرب. يتخطى النّص حدود الفرد ليحط في فضاء العالم الافتراضي، ذلك العالم الذي ينسج خلف شاشاته علاقات مشوبة بالأحلام والأوهام والألم، تاركًا القارئ يتلمس خلجات النفس الإنسانية في ظل عصر التقنية.
تدور الرّواية حول شخصيتين محوريّتين: “ثمر”، المدرّسة اللبنانية، و”نور”، الأديب المصري، اللذين يجمعهما واقع افتراضي موغل في التداخل بين الحقيقة والوهم. يقف الاثنان أمام شاشة الهاتف كعالم بديل، حيث تتراقص المشاعر الخادعة في علاقتهما، فتتبلور قصة حب معلقة بين نور الواقع وظلال الخيال، فتحلق “ثمر” خارج حدود شجرة عائلتها، متأرجحة بين القيم والمبادئ ومسؤوليات الأم والزوجة.
- محاكاة الواقع: قناع الأدب أم قناع الرغبة؟
تعمل الرواية على محاكاة واقعنا المعاش بتفاصيله المؤلمة، فتعيد إنتاجه، وتنسجم معه في بعض لحظاته بلا مواربة. تكشف الأبعاد الاجتماعية والنفسية في علاقة “ثمر” بـ “نور”، الذي يظهر في فضاء التواصل الاجتماعي كأديب محترم (ص 13). تعشق “ثمر” الفصحى التي تجمعهما، لكنها تواجه رياح الضمير، فهي مرتبطة بـ”وائل” زوجها، فيما “نور” يتحول إلى سيد خيالها، صاحب الروح التي ملكها. هذه العلاقة الافتراضية تمثل مرآة واقعنا المعاصر، حيث يقع البعض ضحايا قيم اجتماعية وثقافية معقدة.
تتجلى لغة الجماعة منذ مطلع الرواية، إذ تتشابك المفردات مع رموز وشفرات تنتمي إلى مرجعيات خاصة، تصوّر بيئة الأبطال وسياقات عملهم. فالحديث عن الشعر الكلاسيكي وقصيدة النثر على لسان “ثمر” و”نور” يحيل إلى فضاءات الصالونات الأدبية ومحافل الكلمة، حيث تتقاطع المناقشات مع عوالم المراسلات المحرمة وبعيدة عن أهداف النص العليا. تقدم الكاتبة تمارا هذه الدينامية كنتيجة طبيعية للتفاعل الافتراضي، الذي يتدرج من “الماسينجر” إلى “الواتس أب”، ثم إلى المكالمات الهاتفية المفعمة بالإعجاب والارتباك، حيث ينجذب “نور” نحو قلب “ثمر” بإعجاب لا تعرف كيف تردّه (ص 13).
وتنجح الروائية في اختيار الأسماء:
” ثمر”
اسم “ثمر” يحمل في طياته مدلول العطاء والحصاد، فهو إشارة إلى الثمار التي تثمرها الأرض بعد صبر وانتظار. في سياق الرواية، ترمز “ثمر” إلى امرأة تحمل في داخلها نتائج تجاربها العاطفية والاجتماعية، فهي شخصية تحاول أن تحصد السعادة والرضا رغم كل تعقيدات الحياة والقيود الأسرية. “ثمر” ليست مجرد اسم؛ إنه رمز للخصوبة النفسية والعاطفية، لكنه أيضًا ينطوي على هشاشة كالثمار التي قد تتلف أو تُقطف قبل أوانها. بذلك تعكس شخصيتها الصراع بين الأمل والواقع، بين الرغبة والواجب، بين الحلم والتقيد.
“نور”
“نور” هو الأديب الذي يعيش في مصر، ويمثل ذلك الشعاع الذي ينبثق من خلف الشاشة ليضيء حياة “ثمر” ويحرك مشاعرها، لكنه في ذات الوقت يحمل ضبابية في حياته الداخلية وأعباء طفولته. “نور” هو رمز التوق إلى الانعتاق، لكنه أيضًا يذكرنا بأن النور قد يكون خادعًا أو ضعيفًا، كالوهج من خلف شاشة هاتف. وهكذا، يختزل اسمه التناقض بين الوضوح والضبابية، بين الحضور والغموض.
“وائل”
اسم “وائل” يعني الملاذ والملجأ، وهو يحمل معنى الحماية والراحة. في الرواية، يمثل “وائل” ذلك الزوج الذي رغم غيابه الظاهر، يظل رمزًا للواجب والالتزام الاجتماعي والعائلي. هو الملجأ الذي تتصارع داخله “ثمر” بين شعور الحماية والقيود التي تفرضها أدوارها التقليدية. بوجود “وائل”، تتجسد صورة الروتين والقانون العائلي، لكنه يتحول مع تطور الأحداث إلى شخصية قادرة على المسامحة والتحول، مفسحًا المجال لإعادة بناء العلاقة على أساس أكثر إنسانية ورحمة. وبالتالي، يصبح “وائل” رمزًا للثبات الذي يتجاوز الجمود، وللملاذ الذي يمكن أن يتحول إلى مساحة للحرية.
الأسماء ليست محض تسميات بل رؤى رمزية ترسم معالم نفسيات الشخصيات وتنسج دلالات متداخلة بين العطاء، النور، والملاذ، تعكس قدرة الكاتبة على اكتشاف أبعاد العلاقات بين الأفراد، وتجاربهم النفسية والاجتماعية في رحلتهم بين الواقع والخيال.
- الإنجذاب الرمزي: تداخل المساحة الخاصة والعامة
استولى “نور” على روح “ثمر” من خلف أزرقاق البحار وشاشات الهواتف، متسللًا إلى بلور جسدها وهشاشته (ص ٢١٣)، عبر أحاديثهما التي تضيء خلف الشاشة التي تخفي الواقع وتكشف الأحلام. أعلنت “ثمر” نيتها السفر إلى مصر للقاء “نور”، لكن اللقاء تم في عالم الحلم، في منامها بعيدًا عن يقظة الواقع المرهقة، لتنتهي باكتشاف زوجها سر حبهما.
لمس “نور” جسدها المتعب، وفقد الروح المشاغبة التي انجذب إليها يومًا. ذلك الطفل الذي لا تزال أثقال طفولته تثقل كتفيه، الطفل الذي فقد أمه وعاش يتمها في ظلال الفقر والقسوة. تتجلى هنا حقيقة الرحلة، فهي ليست مجرد سفر جسدي، بل رحلة بحث مستمرة عن كمال العشق في عالم ناقص، وحياة شاردة غير مكتملة. إنه العالم الأزرق، العالم الافتراضي الوهمي الذي أرهقهما وأسرهما في دوامة من التيه.
وفي ثنايا النص، تتجلى روح الشاعرة تمارا شلهوب التي تمطرنا بحروفها العذبة، متساقطة كقصائد نثرية تفيض عواطف على صفحات الرواية، متعانقة بألسنة العشاق الذين يرسمون على الكلمات لوحات حب لا تنتهي.
- البنية الاجتماعية لفعل المسامحة
في مشهد سردي يعكس علاقة افتراضية جمعت “ثمر” و”نور”، تبرز شخصية “وائل” كرمز غائب لكنه حاضر، مجسّدًا الروتين والواجب العائلي الذي يثقل كاهل الوجود رغم غيابه الظاهر. في لحظة مفصلية، يعود “وائل” إلى قلب النص، محملاً بنقد نفسي واجتماعي، ليس كخصم، بل كمن يختار المسامحة؛ ذلك الفعل الداخلي الذي يمثل بوابة التحرر من دوامة التدمير العائلي، متجاوزًا الانتقام والضغائن.
تأتي المسامحة هنا كتحول نفسي عميق، امتداد لرحلة داخلية نحو الانتصار على الجراح وعلى سلطة العناد التي تحكم العلاقة. يتجاوز “وائل” جراح الأنا المكسورة، ليصل إلى وعي جديد يعيد قراءة العلاقة كنسيج هش، معرض للخطأ والتقصير، لكنه قابل للاعتراف والتصحيح. يعود “وائل” غافرًا، شافيًا للجراح، معترفًا بتقصيره، مستعيدًا إعجابه بكل تفاصيلها الدقيقة (ص 138).
هكذا، ترسم الرواية خطابًا حيويًا في فن التعامل العادل، يبتعد عن القسوة والتسلط، مؤسسًا بيئة مرنة متسامحة، متجاوزة للخلافات، متحررة من أغلال التقاليد الجامدة، وجانحة بأجنحة الانفتاح نحو مجتمع أكثر حضارة ورقيًا.
الخاتمة: بين انعكاسات الفضاء الافتراضي وتحصين الذات
تفيض الرواية بوجع تمزق البنية الأسرية وتجليات التحولات العميقة في نسيج الذات، داخل مجتمعات باتت الشاشات الافتراضية تهب عليها رياحها القوية، صغارًا وكبارًا على حد سواء. في ذات الوقت، تفتح الرواية أبوابًا مشرعة نحو عوالم من الفهم الأعمق، والتداخل المعقد للعلاقات الإنسانية التي لم تعد تُروى ببساطة الماضي. تدعونا الرواية بلين وحساسية إلى إعادة النظر في مفاهيم المسامحة والمرونة، لتصبح بذلك تحديًا معرفيًا وأخلاقيًا جليًا: كيف يصون الإنسان توازنه النفسي والعاطفي في عالم تتسارع فيه التيارات وتتصارع المرافئ؟
وختامًا، نغلق صفحات الرواية على اتصال مع متابع يتوق لسماع رأي الناقدة “ثمر” في كتاباته وأشعاره، فتبتسم “ثمر”، لكن وراء ابتسامتها تختبئ دموع تُرصد عمق الندم وحجم الألم، لتتبدى روح الكاتبة الناقدة تمارا، فكيف لا، و”ثمر” هي صورة المرأة الغارقة في مهب الأزرق، حيث لا يجد الحالمون سوى الأمواج اللامتناهية.
[1] مريم محمود سرور: باحثة وناقدة من لبنان
[2] تمارة شلهوب: شاعرة وكاتبة من لبنان، صدر لها ديوان “نشوة عذراء” 2024، و رواية “امرأة في مهب الأزرق”2023