بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
في زمنٍ أصبحت فيه النرجسية نمطًا ثقافيًا أكثر منها اضطرابًا نفسيًا، حيث تُقاس القيمة بالظهور لا بالجوهر، برز مصطلح «الهيوكا» في الفضاءات الرقمية بوصفه توصيفًا إنسانيًا جديدًا لشخصيةٍ تجمع بين التعاطف العميق والذكاء النفسي والمرونة الأخلاقية.
ورغم أن هذا المفهوم ليس مصطلحًا علميًا أكاديميًا في علم النفس التقليدي، إلا أنه اكتسب حضورًا ثقافيًا متزايدًا يعكس حاجة الإنسان المعاصر إلى نموذجٍ بديل يوازن بين الرحمة والعقل، وبين الحِسّ الأخلاقي والقدرة على حماية الذات.
«الهيوكا» هو الوجه النقيّ للعقل المتفهم؛ لا ينساق وراء الانفعالات، ولا يتورط في قسوةٍ باردة. إنه التعاطف المتيقّظ، الذي يعرف أن الرحمة بلا وعيٍ تتحوّل إلى استغلالٍ ناعم، وأن الذكاء بلا وجدانٍ يُصبح قسوةً متنكرة بالمنطق.
–أولًا: الجذور النفسية للهيوكا.
رغم أن مفهوم «الهيوكا» غير معتمدٍ في الأدبيات الأكاديمية، فإن جذوره النفسية تتقاطع مع ما وصفه دانييل غولمان في كتابه الذكاء العاطفي، حين ميّز بين الذكاء المعرفي والذكاء الوجداني.
فـ«الهيوكا» يمثل نوعًا متقدّمًا من الذكاء الوجداني الذي يفهم الذات والآخر في آنٍ واحد، دون أن يسمح بتلاشي الحدود النفسية بينهما.
ومن زاوية التحليل النفسي، يمكن القول إن شخصية الهيوكا تملك توازناً نادراً بين الأنا والأنا الأعلى.
فبينما تميل الشخصية النرجسية إلى تضخيم الأنا، يملك الهيوكا «أنا» مرنةً، تدرك ضعفها وتتعامل مع الآخرين بالتعاطف لا بالتمركز.
أما في ضوء مفاهيم كارل يونغ، فهو نموذج لـ الإنسان المتكامل Individuated Self الذي وحّد ظله ونوره، فصار وعيه الأخلاقي متحرّرًا من الانفعالات البدائية.
ثانياً: السمات النفسية للهيوكا
1. الذكاء المرن:
يرى الأشياء من زوايا متعددة، ويستطيع تحليل المواقف الإنسانية بموضوعيةٍ دون أن يفقد حسّه الإنساني.
يشبه في ذلك ما وصفه إريك فروم بـ العقل المنتج الذي يُوجّه المعرفة نحو الحياة لا نحو السيطرة
2. التعاطف الواعي:
ليس تعاطفًا ساذجًا أو انفعاليًا، بل إدراكٌ شعوريٌّ منضبط.
يعرف متى يصغي، ومتى يضع حدودًا، لأن التعاطف الحقيقي — كما يقول بول تيليش — هو «أن تحب الآخر دون أن تذوب فيه».
3. الفكاهة الحكيمة:
يمتلك حسّ الدعابة الذي يحميه من الانغلاق العاطفي، ويخفّف من حدة المواقف.
الفكاهة هنا ليست هروبًا من الألم بل استراتيجية ذهنية لتفريغ التوتر، شبيهة بما وصفه فرويد في تحليله لنكتة «كآلية دفاع راقية».
4. المرونة النفسية:
يعرف كيف ينهض بعد الخيبات، ويحوّل التجارب السلبية إلى وعيٍ أعمق.
هذه المرونة تضعه في مواجهة مباشرة مع النرجسي الذي ينهار عند أول جرحٍ للنرجسية الذاتية.
5. القدرة على قراءة الآخرين:
يُحسن التقاط الإشارات الدقيقة، ونبرات الصوت، وتناقضات السلوك، فيفهم دوافع الآخرين دون أحكامٍ متسرّعة.
وكأن في داخله «رادارًا وجدانيًا» يميّز بين الصدق والتلاعب.
–ثالثًا: الهيوكا في مواجهة النرجسي.
النرجسي يسعى إلى السيطرة، بينما الهيوكا يسعى إلى الفهم.
النرجسي يحتاج جمهورًا، أما الهيوكا فيكتفي بالحوار الصادق.
ولهذا، فإن الهيوكا يمتلك مناعة نفسية عالية ضد التلاعب العاطفي، لأنه لا يُغريه الإعجاب الزائف، ولا تُربكه المراوغة.
حين يواجه الهيوكا النرجسي، لا يدخل في صراعٍ مباشر، بل يستخدم ذكاءه الانفعالي كدرعٍ يحميه.
يعرف متى يصمت، ومتى ينسحب، ومتى يضع الكلمة كحدٍّ أخلاقي فاصل. إنه — بتعبير نيتشه — القويّ الذي لا يحتاج إلى أن يكون عنيفًا، لأن قوّته تكمن في توازنه.
في المقابل، يشعر النرجسي أمام الهيوكا بالتهديد، لأنه لا يجد فيه المرآة التي تعكس مجده.
فالهيوكا لا يُعجب بسهولة، ولا يقدّس أحدًا، بل يرى الإنسان في ضعفه وقوّته معًا. وهنا يُصاب النرجسي بالارتباك، إذ يفقد قدرته على التحكم في «لعبة الصورة».
-رابعاً: البعد الفلسفي للهيوكا.
الهيوكا هو التمظهر المعاصر للوعي الأخلاقي الذكي. فهو يمارس ما أسماه إيمانويل ليفيناس «المسؤولية تجاه وجه الآخر»، لكنه يوازنها بحدودٍ تحفظ الذات.
إنه إنسانٌ يعي أن التعاطف لا يعني التورط، وأن الكرم العاطفي لا يقتضي الفناء في الآخر.
في فلسفة سبينوزا، نجد ما يقارب روح الهيوكا: «كلّما ازداد الإنسان فهمًا، ازداد حبًا.» لكن الهيوكا يضيف إلى هذا الفهم التمييز؛ فهو يحبّ ويفهم، لكنه لا يسمح بالاستغلال.
أما في ضوء الفلسفة الوجودية، فهو يمثل ما تحدّثت عنه سيمون دي بوفوار حين قالت إن الحرية الأصيلة هي أن تختار الخير دون أن تُكره عليه. فالهيوكا يختار الرحمة بإرادةٍ واعية، لا بخوفٍ من الرفض، ولا برغبةٍ في التقديس.
-خامساً: البعد الاجتماعي والثقافي.
في عالمٍ باتت فيه العلاقات تُقاس بعدد المتابعين، والهويات تُصنع في الفضاء الافتراضي، يظهر «الهيوكا» كضدٍّ ثقافي. هو صوت الصدق في زمن الزيف، والوعي في زمن الاندفاع العاطفي. إنه إنسانٌ رقميٌّ بحدودٍ روحية، يستخدم أدوات العصر دون أن يستسلم لتسطيحها.
الهيوكا هو الإنسان ما بعد النرجسية، الذي تعلّم من عصر الفردانية المفرطة أن الحماية لا تكون بالعزلة بل بالوعي، وأن التوازن بين الذات والآخر هو المعنى الجديد للنضج الإنساني.
-خاتمة:
«الهيوكا» إذن ليس مجرد مصطلحٍ شبكيٍّ أو موضة سيكولوجية عابرة، بل إشارة رمزية إلى تحوّلٍ عميق في الوعي الإنساني. إنه إعادة تعريف للتعاطف بوصفه قوّة واعية لا ضعفًا عاطفيًا، وللذكاء بوصفه أداة لحماية الكرامة لا للهيمنة.
فالهيوكا هو الإنسان الذي جمع بين رهافة القلب وصلابة العقل، بين الإحساس بالجراح والقدرة على مداواتها، بين الحبّ والفطنة، والإنصات والحدود.
وفي عالمٍ يتغذّى على الصخب النرجسي، يظلّ الهيوكا الهدوء العاقل الذي يُنقذ الإنسانية من ابتذال العاطفة ومن طغيان الأنا.

عماد خالد رحمة