لا تزال صلة البصري المتوسع عن التشكيلي وتداعياته تحظى بالطاقة التجريبية للشعراء خاصة، واستعاناتهم بأعمال الفنانين لمصاحبة القصائد برسومهم وتخطيطاتهم.
تثقل اللوحات المرسومة على المستوى التعبيري للقصيدة غالباً، فهي تأخذ الانتباه لما فيها من صباغة. لكن ما يقدم من تخطيطات، تتعدى الدور التوضيحي في الطباعة والنشر، يظل أكثر مناسبة، لما في التخطيط من حرية واستيعاب للملفوظ الشعري، والانطلاق منه لإنجازعمل فني، يعمق الإحساس الجمالي لدى المتلقي احتكاماً إلى مرجعية الملفوظ الشعري. وتخطيطات الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد الخاصة لعمل شعري منشور بطبعة جديدة هو «اليد تكتشف» لعبد الزهرة زكي، تتيح هذه المقاربة وتأمل الصلة بين الشعري والبصري مجدداً.
لعل الشذرة الشعرية التي تقول: «اليد تكتشف.. الجسد يتحرر» المقتبسة من الديوان تلخص طريقة عمل الشاعر في نص مبكر يُجمل خصائص المزاج الثمانيني وتنويعات اللغة التي فُتن بها الشاعر، وهو يطلق من قوسها سهامَ جملِه الشعرية المتدافعة ملتمةً حول وجودها، عابرةً كومضة، ومكتفيةً بنفسها. مستقلةً في غنىً داخلي يورط القارئ في اكتشافاته إلى حد انتزاعها كحِكَم، لا تصادر صياغتُها الشعرية منطقَها العقلي، مدعومةً بتمجيد العقل في مستهل الديوان، وفي عتبة تؤطر القراءة، لتضع في عقدها مع القارئ إمكان الحوار العقلي، بمعنى إنطاق القصيدة المتشذرة كالشظايا باطراد واضح قوة العبارة التي تستفز الفكر.
تقول العبارة الاستهلالية:
«أريد من كلماتك ما لا أريده من العقل».
يضع الشاعر هذه العبارة في مدخل الديوان. إنه يوجه قراءة القارئ وفق هذه العتبة لتلقّي نصٍ بديلٍ لمنطق مفقود في الخارج. إنها احتجاج أكيد على جوْر وفراغ واستلاب، تتواشج مع ندم ودمع وتفكٍّر بما جرى، وتوقُّع لما سيحصل. يتحول الخارج إلى مكان ندبٍ شجيٍّ. تأخذُنا رهافة العبارة ويتمُها وعزلتُها إلى ما في عمقها.
لكأنّ اليد تكتشف فيتحرر الجسد، وتعني أن اكتشافات اليد (الكاتبة) ستقود الجسد إلى حتفه. سوف يتحرر، ولكن باشتراطات الراهن الذي يؤطر الكتابة. الراهن الجاثم آنذاك سيخنق تلك النصوص ويئِد حريتها المؤملة. (حرية تتسور بصلبانها) هكذا توصف باختزال دالٍّ ومعبّر في إحدى الشذرات.
ومثل هذا ما تذهب إليه تخطيطات شاكر حسن، مستلةً من شظايا الشذرات الشعرية التجريدَ الصوريَّ واللغوي والحرية الإيقاعية، لتبني نشيجها وخطوطها الخارجية التي تسترخي حرة بألمها.
إن القارئ في موقف التفكير سينسحب إلى موقع النص العقلي مسوقاً بشعرية الشذرات والومضات، وما ستضفي عليه قصيدة النثر من جماليات الفكرة، مصوغة بإيقاعات الشعر غير المرئية. تلك الجمل الشعرية تتشح بأفكارها منسابةً بلا ضجيج إيقاعي خارجي من وزن، وما يترتب عليه من لغة تقليدية تنصاع للمعنى لا الدلالة.
في طبعة الديوان الأولى تتنضد تلك الميزات التي عثر الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد وفي قراءة عارفة، على موتيفاتٍ مناسِبة لسلسلة تخطيطات، بعد عقود من تنفيذها على صفحات الديوان المطبوع، كما سيرد في السردية التي يختم بها الشاعر برهافة وعذوبة ودقة هذه الطبعة الجديدة، وهي تتيح مطارحة جديدة حول صلة البصري بالكتابي، والشعري تحديداً، ما يتواشج وما يفارق، يتقاطع ويهرب إلى جنسه ونوعه الفني. فالشاعر هنا في هذا الموقف التشاكلي التواشجي معتصم بملفوظه، والرسام بخطوطه. وبينهما تنعقد علاقة شفيفة، غير متعينة بالضرورة كوسيلة توضيح أو هامش مجاور، بل هي لابثة في مركز القراءة والفهم والتأويل.
صار للنص الشعري تعدية نوعية. من جُمل شعرية في قصيدة، إلى خطوط تلامس المقروء، ثم تعود بما جنَت لتكرّسه في هيئة بصرية، تحاكي بما يسميه عبد الزهرة (البلاغة التشكيلية) لتبني نصاً آخر ذا هيئة فنية، تلتقي جمالياته مع جماليات النصوص. تجريد شعري سيغري الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد في أوج انغماسه في مفردات الخطاب الصوفي، والتقشف الذي تسيّد أعماله الحروفية وما بعدها في ظلال التجريد الذي اعتمده منهجاً وغاية، أن يصنع هذا الكم من التخطيطات على صفحات الديوان الذي يتمثل متع الكتابة الشريدة الهاربة من جحيم الموت المجاني في الحروب العبثية وارتباكات الهوية، والتعبير بحرية مقيدة، محسوبة حدودها بأعين الرقباء الملوثة بالعمى الفكري، واللاهثة وراء النميمة، وتشمم المسكوت عنه في الخطاب الشعري الجديد الذي تكفلت قصيدة النثر بمنحه الفضاء الذي ينشده. فضاء مباح للسرد وللتسميات وللبنى الخطية والهيكيلية، حيث يبرز المعمار الشكلي مجرداً من الثبات والتكرار والرتابة.
واليوم تعود التخططيات التي دبّرها شاكر حسن في لحظات تجلٍّ فريدة، مرافقة للنصوص التي تمثل مهاد ولادتها، متقدمة ومعها حنينها للحرية، والندم على ما جرى ورثاء ما يجري. حيث الأسطورة تلتبس بالرمز، والإشارة بالعلامة، والمعاني بالدلالات.
وكما في الومضات من انشغال بذاتها وإيجازها، وهروبها من الثرثرة والإبانة السمجة، فإن التخطيطات تلجأ للخطوط الخارجية، ولمفردات تشكيلية قليلة، تعوض دلالاتها عن محتواها، وعريُها الشكلي ورهافتها عن امتلاء الخارج واكتظاظه.
يستعين شاكر حسن بتاريخه الحروفي ليستولد الإحالات على المرجع الشعري لعبد الزهرة زكي. ثم تأتي الأوفاق والكتل العددية التي تصطف في أشكال بدئية ورمزية كما في التعويذة والرقائق الجلدية، أو الألواح الطينية من عراق ما بين النهرين. وإذ تتجسد قليلاً بعض الوجوه، فإنما لتبليغ رسالة عبر حضور وجه إنثوي في هذا الفضاء الحزين، والشجن الذي تنطوي عليه جُمل اليد التي تكتشف.
يلائم شاكر حسن بخطوطه المقتصدة إيقاع النصوص ذاتها بما أنها ومضات وجُمل. عراؤها مصدر بلاغتها. ونحافة الخطوط تطابق المنطق المغلف بأغطية الشعر المسدلة عليه، لا كغطاء بل كجزء من بنيته القولية. وهكذا صنع شاكر حسن أيضاً مثالاً لتواشج الشعري والتشكيلي، وعناق الخط والكلمة، في محفل جمالي واحد.
التقاطات تتحول خطوطاً تركز في شكلها على حركة الأرجل والأيدي، وزوايا من وجوه، وأفواه غارقة في النسيان المتأتي من نقصانها. لا شيء يكتمل. تشترك الكلمات والخطوط، دفق القصيد وهجس التشكيل، ليؤلِّفا هذا النشيد الشجي.
ستقدم التخطيطات نفسها كتعدية نوعية وأجناسية خاصة لنصوص عبد الزهرة زكي. يلاحق ملفوظاته من قبيل: «أكف تصفق بلا هواء، وأدلاء لا يصلون» – ياللمفارقة، و«المرائي» تغرق في العتمة، و«أسطورة الذراع التي يجري من تحتها النهار المنوّم»..
ولكن السردية التي يقدمها الشاعر في نهاية الديوان بعنوان «نسخة نادرة من الديوان» تعيد للذاكرة سياقات ولادة العمل بهيئته الجديدة، ثمة نسخة من ديوانه بطبعته الأولى أوصلتُها له من الرسام شاكر حسن. ومعها تخطيطات عديدة تتواشج مع الكلمات حيث يقف شاكر فيرسم انطباعه أو ما يصل إلى شعوره وإدراكه وانفعاله. سردية عذبة دقيقة التفاصيل عن دهشتنا معا: الشاعر وأنا حيال ما صنع شاكر بنسخة الديوان التي وافق على إيصالها للشاعر.
يسترجع الشاعر بدقة نادرة مواقيت ذلك اللقاء، وحوارنا حول صنيع شاكر الذي يتصرف بتلقائية عادة حيال ما يقرأ، فيرسم تخطيطاته حيث يتيسر له.
كنت أراوغ بصر عبد الزهرة في ادعاء أني عثرت على نسخة جديدة من الديوان الذي لم يكن قد مرَّ على صدوره أكثر من أيام قليلة. يشجعني على الفكرة بروز التخطيطات وكأنها جزء من طبعة الكتاب الشعري. حبر شاكر وقلمه الحر وخطوطه المتراوحة الطول والارتفاع، والتي تتقلص أو تلتئم أو تتناثر مبتعدة عن التشخيص، ولكن بتلك الروح التي ينفّذ فيها شاكر حسن تخطيطاته.
ثم ستنعقد بين الشاعر والرسام صلة متسعة عن صلة القصائد بالتخطيطات، وسينشأ عنهما حوار مفقود. يتعقب عبد الزهرة أصداءه بعد فقدانه، ويحاول أن يتمثلها في استرجاع فذ ومؤثر.
كنتُ أسهم دون قصد في عقد هذا اللقاء البصري الشعري. ثم عقب تلك السنين وارتباكاتها وضياع البوصلة في كثير من مفرداتها، أجدني مرة أخرى مع العمل الشعري، محفوفاً بتلك القراءة البصرية التعرّفية العارفة، لواحد من أفذاذ الحروفية والبعد الواحد والرسم الحر..
وها أنا أرى الكتاب الآن متجسداً في حزمة ورقية واحدة.
يتحقق بعد عقود كوعد مؤجّل، كما هي الحرية والأمل والخسارات. وبينهما فقدانات ليست هينة: رحيل شاكر حسن آل سعيد، وهجرة غير محسوبة لي، وضياع تدوينة حوار مطول مع الرسام من يدي الشاعر.. ما أعطاه صفة الأبدية، والانفتاح بأسئلته القائمة صوب اللانهائي واللا منقضٍ.
فاليد تكتشف والجسد يتحرر..