يجي احتضار الشوق في سجن البدن
من اختمار الحلم يجي النهار
يعود غريب الدار لا أهل ولا سكن
ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء
وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع
أقسى همومنا يفجر السخريات
وأصفي ضحكة تتوه في بحر الدموع
ولفين يأخذنا الأنين
لليالي ما لهاش عينين
ولفين يأخذنا الحنين
لواحة الحيرانين
بمجرد الانتهاء من قراءتي لرواية، (رجل المرايا المهشمة) للكاتبة الفنانة السورية لبنى ياسين.. قفزت أمامي تلك الكلمات للشاعر المصري (سيد حجاب)، شعرتُ ان كل كلمة تعبر عن هذه المأساة، هذه التراجيديا السوداء القاتمة، التي تثير الاكتئاب، منذ اول فقرة فيها، حتى نهايتها..بدأت باجترار دلال خيباتها، بلغة شعرية جميلة بصورها المثيرة للحسرة، تقول لبنى بلسان السارد
«للمرة الأولى على امتداد عمرها الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين ، يهديها القدر ليلة ليست ككل الليإلى، ليلة تساهر فيها ذاتها، وتتأمل خرائط نفسها، ومتاهات قلبها النازف، وحزن متهرئ لا يريد أن يفارقها»،
وعلى امتداد متن الرواية نجد ويلات وراء ويلات يعيشها صطوف/الضحية. بل وبدأت ويلاته منذ كان جنينا في رحم امه، وقد اثبتت الدراسات العلمية ان الجنين يشعر بكل ما تحسه امه وكل انفعالاتها وقد اشارت الكاتبة لذلك في عدة مواضع من الرواية،
وتلخص الكاتبة حياة صطوف واصفة حاله:
«تجاوز صطوف التاسعة عشرة، وهو يعيش على هامش العمر حياة لا طعم لها ولا لون، يتعمد ألا يشغل حيزاً مساوياً لحجمه أو وزنه، حيزاً قد يلامس فضاءات من حوله دون قصد، ولو من بعيد، فيلمح تلك النظرة التي تطرده من ذاكرة الحياة إلى زوايا مهملة، لم يطلب شيئاً، ولم يتذمر، ولم يحلم بشيء ولو مرة واحدة.»نكرته امه منذ كان نطفة في رحمها، وكيف لا وهو بذرة ملعونة؛ نتيجة اغتصابها وتلوثها.. لم تتوان عن اى طريقة لمنع خروجه للحياة، وباءت كل محاولاتها بالفشل، حتى حين حاولت خنقه عند نزوله من رحمها، فنبذته رضيعا، ثم طفلا، ولم تسمح له بالاقتراب منها بعدما، خصصت له ركنا قصيا، لم يغادره حتى تجاوز العشرين من عمره، واستأجر بيتا خاص له..ولم يتسن له الاقتراب من امه التي أحبها رغم تنكرها ومقتها له، دون سبب يعرفه، الا حين فارقت الحياة وقتئذ فقط ألتصق بها ونام بجوارها.
اختلس لحظات من الزمن ليحتضن جثمان امه وينعم بقربها، دون ان يع انها جثة هامدة.
خلّفت تلك العلاقة عقدة حياته، فكان انكسار الروح ثم قمة الاختلال حين فعل فعلته الشنيعة بمضاجعة جثة فتاة ماتت يوم زفافها، وفض بكارتها ،الرواية أثارت شجونا وحزنا، منذ غلافها الى الصفحة الاخيرة. وكدت وانا اقرأ أُصاب بالاكتئاب.
لم ينقذني من هذا الشعور الا جمال اللغة، وروعة مفرداتها، الجزلة، وجرس الجمل.
«أصبح يوم الثلاثاء بالنسبة له حدثاً استثنائياً يزرع الأقمار في ليالي عمره الجدباء، ويورق فرحاً في نهاراته، حتى أوشك أن يؤرخ عمره كله به، ويقسمها إلى ما قبل الثلاثاء وما بعده، كانت زيارة مها تجعل لعمره الذي يمضي دون جديد ولا قديم معنى آخر، فما أجمل أن يكون في عمر الإنسان شيء جميل ينتظر هطوله كل ثلاثاء على صحراء حياته، وما أحلى انهمار هذا اليوم غيثاً رقيقاً على قلب تشقق لشدة الجفاف وقسوته، ليغسل أكوام الحزن برقة فرح يُؤذن له بالدخول، بل اختلس لنفسه مكاناً دون إذن، تسلل كشعاع هارب من ثقب صغير في جدار قاتم يحجب النور.»
عن قراءة ما وراء الرواية، بعيدا عن الحدوتة، نرى بها من اسقاطات على واقعنا المتردي، وهذا القهر الذي يطحنا، مع عجز يكاد يفتت اكبادنا.قدمت الكاتبة شرائح من المجتمع نعيش بينهم؛ فمثلت دلال وسحر شريحة المرأة المقهورة حد الانسحاق، والاستلاب من قسوة مجتمع ذكوري.
ومَثلّ صطوف الطبقة المقهورة على كل المستويات. بينما مّثلّ ابو نعيم الطبقة الرأسمالية التي تستغل البسطاء حد اغتصابهم.، ويمثل ديبو عموم الطبقة الفقيرة البسيطة في التفكر والتصرف والعمل. عديم الثقة بذاته حد الشعور بالدونية.
وهكذا كانت لبنى ياسين بروايتها تمارس لعبة الاسقاط.
استطاعت لبنى ياسين ان تقدم لنا حياة البؤس الناجم عن الفقر، وترسم لنا جدارية تجسد فيها هذا القهر.. براوى عليم. وهي الفنانة التي تمتلك ادواتها كشاعرة وتشكيلية. فقد خطت ريشتها عدة لوحات بصور واستعارات وبلاغة تثير التأمل والتحليق، رغم السواد ومثيرات الاكتئاب.
المكان: احدى الحارات في حي شعبي بدمشق، والتنقل فيه بين المنزل وورشة ابى نعيم، ثم ثلاجة الموتى. ومنزل صطوف الذي استأجره بعيدا عن منزل الأسرة.
ولم نذهب الى منزل ناجي في الحي الراقي، فقط اشارت اليه لم تقدم لنا تلك الامكنة مجردة بوصف تقريري وحسب، ولكنها وصفتها بدلالة بليغة؛ اذ تصف الحارة وابنيتها لتخبرنا عن مدى بؤس قاطنيها. «البيوت التي تتكاتف وتساند بعضها بعضا في مواجهة فقر يتربص بكل بيت منها»
وتصف، الشقة التي تقيم فيها دلال، فتقول: «تتبعثر على أطراف تلك الغرفة… قطع أثاث قديمة تشي بفقر أصحابها… على جدرانها المصفرة الملونة بطلاء متآكل تحتفي الرطوبة برائحتها وبزحفها الذي لا ينتهي، تاركة بقعا قبيحة تَقَشَّرَ من فوقها الطلاء الذي فقد لونه بسبب شيخوخة لم تكن مبكرة على الإطلاق. تلك الجدران المتآكلة تذكرها بقلب يصدأ كل يوم دون أن تتمكن من أن تفعل له شيئا واحدا يعفيها من طعم الانكسار المر»
اما منزل ابى نعيم تصفه لبنى ياسين لتعكس لنا ماهية وذوق تلك الطبقة التي ينتمي اليها ابو نعيم، فتقول:
«في ذلك المنزل حيث يبدو الثراء واضحاً، فهو مكون من خمس غرف واسعة, أثاثه جديد رغم أنه لا يرقى لرفاهية الأناقة المتعارف عليها في مجتمع الأغنياء, إذ أنه مزدحم بالألوان كما هي العادة في الطبقة الشعبية،»
وتصف ثلاجة الموتى وصفا دالا يعكس حياة صطوف.
« كانت الغرفة واسعة، تشعر وكأن الكآبة قد طلت جدرانها بلون باهت مقیت، حتى بلاطها يبدو كأنه فقد لونه بسبب التقادم، تسند البرادات جدرانها من كافة الاتجاهات»
الزمان: خارج متن الرواية مجهول، والزمن في الرواية يمتد لأكثر من عقدين. هو عُمر صطوف.. وان قدمت لنا ما بين اغتصاب دلال ونهاية صطوف في السجن وهو زمن الاحداث، قدمت بعض المراحل الزمنية
«مضى أسبوع والرضيع مرمي عند الجارة»، «مَرَّ على مرض دلال هذا قرابة ثلاثة شهور، لا أنينها ينقطع»
«تجاوز صطوف الرابعة من العمر وحيدا »، «تجاوز صطوف التاسعة عشرة ، وهو يعيش على هامش العمر»
«كان أسبوعاً قاسياً ذلك الذي حُرم فيه من اختلاس النظر إلى وجه يعشق تفاصيله، ويمنحه الدفء والقوة ليكمل مشوار الحياة المتعرج بمنعطفات لا تعد، وانكسارات لا تحصى.»
وهكذا كان استخدام الكاتبة للزمن في متن الرواية محصورا في أحداثها.
الشخصيات
استطاعت لبنى ياسين رسم الشخصيات بمهارة لا تدهشنا، لامتلاكها سمات الشاعرة مرهفة الحس
.اجادت سبر اغوار الشخصيات كما لو كانت جراح امسك بمشرطه، نائقة كل الجروح، فقدمت لنا كل شخصية بسماتها الشكلية الدالة على عمق تلك الشخصية، تصف الكاتبة الزوج دياب
«زوجها رجل بدأ الصلع يهاجم رأسه بقوة، معتدل القامة، ممتلئ الجسد، تنخفض زاويا عينيه الوحشية بشكل واضح عن الإنسية، مما يكسب ملامحه انطباعاً بالحزن والتشاؤم لم يكذبهما طبعه له رقبة قصيرة ورفيعة تبدو وكأن أقل حركة غير مدروسة من صاحبها يمكن أن تدقها،
أكسبته عادة التدخين المتواصل خشونة في الصوت، غير أن نبرة صوته كانت تعاني من انكسار غير خفي لتخرج منخفضة كما لو أنه يهمس بصراخه، علاوة على ذلك فهو رجل سلبي لا يكاد يتخذ موقفاً تجاه أي شيء في حياته، مسالم حتى الاستسلام»
وتصف ابى نعيم بالأصلع السمين ذا الرائحة الخشبية. كما تصف ابى توفيق والد سحر
«كان يصادف جاره صاحب عربة الخضار كلما فتح باب منزله صاعداً من قبوه الصغير، ومتجهاً إلى دوامه الصباحي، وهو رجل ضخم ، أصلع الرأس، وما تبقى من شعره يبدو بشيبه وخشونته كنتف قطن لم ترتب جيداً باغتها سواد لم تختلط به، أسمر الوجه، يلتصق رأسه برقبة ضخمة كجذع شجرة عجوز ترتكز على كتفين عريضين، و يتدلى من تحت صدره كرش كبير يضطره إلى وضع حزام بنطاله أسفلها فتبرز أكثر، لديه أذنان كبيرتان بارزتان على طرفي رأسه تذكران بمنظر ثعلب يدبر مكيدة، وفي عينيه شيء يشبه المكر يطلق منهما نظراته الحادة المتفحصة، فيترك انطباعاً بعدم الارتياح والحذر»
كما تصف مها ابنة شقيقة زوجة دياب «مهــا ذات الستة عشرة ربيعا والوجه الملائكي، والخدود الوردية، والعيني الناعستين، كأن على أهدابهما تغفو أحلام البشر».. الخ الشخصيات، فلم تغفل عن وصف أي شخصية وصفا دقيقا.
أما مكانة كل شخصية في الرواية، فنجد الشخصيات الاساسية التي تدور حولها الأحداث، صطوف وقد وصفته وصفا تشريحيا فسيولوجيا ونفسيا باستفاضة من خلال السرد، وكذا دلال، كما كانت الشخصيات الثانوية والتي اثرت في الأحداث مثل كل من الزوج دياب ورب العمل ابى نعيم كما ذكرت، وكذا ابى توفيق والد سحر التي تزوجها صطوف. اما الشخصيات الاشارية ذات التأثير المباشر على الشخصية الرئيسية (دلال) التي ذكرتها الكاتبة فهى ام ووالد دلال، وكذا والدة دياب. الاخيرة بمرضها ثم موتها تسبب في كارثة ومصاب دلال التي كانت بمثابة عقدة النص، اما والدها ووالدتها فغيرا مجرى حياتها.
الحوار والمنولوج:
افتقد النص لعنصر الحوار الا من بعض جمل قصيرة. كحوارات صطوف وقطه الاعور الذي اكتشفنا لاحقا انه مجرد حوار مع ذاته المشوهة من وجهة نظره. وبعض الحوارات القصيرة، مع الاخ سالم، او بين الاب وزوجته، او تحية مها لصطوف، وكان هناك ايضا حوارا بين منى زميلة صطوف معه، اما المونولوج مكان له النصيب الاكبر، سواء لدى دلال او صطوف.
الرواية اتسمت بالمشهدية، والوصف التصويري، والحركة والصوت، لكأن من يقرأها يشعر انه يشاهد الاحداث مصورة امامه، «وما هي إل لحظات حتى يعطي الشيخ إشارة البدء بالقرع على الدف، فتدور النسوة حول أنفسهن متراقصات على قرع الدفوف ورنين الأقراص النحاسية التي تحيط بتلك الآلات الخشبية، حتى يصلن إلى حالة من الدوار الشديد توقعهن أرضا، دون حراك وكأنها بعثرن همومهن
“في حلقات مفرغة بينما الدنيا تدور بهن، فتسهو صاحبات الأجسام التي فقدت توازنها”
لم تكن المرايا مجرد عنوانا للنص، ولكنها كانت تجسيدا وكشفا للكثير من معان قصدتها لبنى ياسين، اذ كانت اداة، لانعكاس صوراً متطابقة، وأخرى متضادة، على سبيل المثال لا الحصر تعكس مرآة دلال/ سحر التي تتطابق معها في القهر والانسحاق، وفي نفس الوقت تعكس صورة زوجها ديبو، كما تعكس مرآة صطوف القط الاعور الذي يشعر بتطابق معه حد الالتحام، فنكتشف ان لا وجود لهذا القط، ولكنها الصورة التي يراها صطوف لذاته، وتعكس مرآة ابى نعيم / توفيق، تطابقا كبيرا، فكل منهما مغتصب.
واخيرا بعد القراءة والتأويل كما اراه نحن أمام نص كاشف وجريء حد الصدمة، إذ وضعت الكاتبة يدها على مواضع المثالب وسلطت الضوء على العديد من السلبيات والأمراض المجتمعية المسكوت عنها، وهذا هو دور الأدباء والكُتّاب عامة..
استطعت بعد انتهائي من القراءة ان استوعب معنى عتبة النص وتلك المقدمة الصادمة عن الأم التي تطلق ابنها الذي يعاني تخلفا بسيطا، تطلقه في الشارع مبتهلة الى الله ان تصدمه سيارة.. كانت مقدمة لسلوك دلال مع صطوف.. ولم تخفف القصة اللطيفة حول الام التي صنعت من ابنتها المعاقة اعاقة شديدة، صنعت منها كاتبة كبيرة، ذكرتني بقصة (هيلين كيلر) الشهيرة، وان كانت لبنى ياسين قد ارادت بتلك القصة تخفيف ما حمّلته النص من قتامة. إلا أنني شخصيا لم أسلم من مثيرات الحسرة لما قصدته الكاتبة من وراء النص من اسقاطات نلمسها جميعا.