ها أنا أعود إلى باقر السماوي، لا كمن يعيد قراءة نص قديم، بل كمن يقف على شرفة عالية، ويُطلّ على مدينةٍ غمرها الغبار، ثم مرّت عليها نسمة هادئة، فاستفاقت فيها الأزقة والبيوت وقلوب الناس. أعود إليه كأنني أعود إلى ذاتي الأولى، تلك التي تعلّمت من السماوة أن القلب حين يتعب من العالم، يعود إلى القصيدة كما يعود طفلٌ إلى حضن أمّه. أكتب الآن بلغةٍ أرغب أن تكون مطرًا خفيفًا على وجه القارئ، لغة تقترب من محمود درويش حين يشتهي أن يجعل من الحنين جناحًا، ومن التأمل طريقًا، ومن الجملة وردةً تتفتح من تلقاء ذاتها. للسماوة روح لا تُشبه إلا نفسها. مدينةٌ صارت في الذاكرة مثل نبرةٍ حزينة في أغنيةٍ قديمة، أو مثل ظل نخلةٍ انحنى قليلا ثم عاد واعتدل، كأن الريح مرّت به لتحيّيه قبل أن تواصل طريقها. هناك، حيث تنحني الشمس في المساء كي تستريح عند أقدام البادية، ولد الشعر قبل الشعر، وخرجت الأرواح من حرارتها الأولى مثل طيورٍ ترتجف قبل الطيران. من نخل السماوة الذي كان سعدي يوسف يلمسه بعينين منفيتين، إلى “يا حريمة” التي جرحت أرواحنا، ليس لأن صاحبها أراد أن يجرح، بل لأن السماوة حين تغني تصيب القلب مباشرة، بلا مقدّمات ولا موافقات ولا إذن مسبق. هؤلاء السماويون لا يكتبون الشعر، بل يفتحونه في صدورهم كما يُفتح الباب أمام ضيفٍ قادم من سفرٍ بعيد. هم أبناء البادية التي علّمتهم الكرم، وأبناء الماء الذي علّمهم الصفاء، وأبناء الليل الذي علّمهم أن الحنين أقوى من السهر، وأن القلوب التي تضيء وحدها لا تحتاج إلى كهرباء. يقدمون التمر لا لتأكل، بل ليقولوا لك: ها نحن، هذه حلاوتنا، هذه شهامتنا، وهذا ما تبقى لنا من العالم. وكلما ارتفع صدى “نخل السماوة” تذكّرت أن الشعر هناك ليس كلماتٍ تُقال، بل هوية تُحمل على الكتفين.
الشعر في السماوة امتحان للروح. ليس زينةً للوقت، ولا هوايةً تُمارس عند الفراغ، ولا رغبةً في شهرة أو مكانة. الشعر فيها وقوف، والوقوف فيها امتحان. أن تقول شعرا في السماوة يعني أن تخرج من ذاتك كما يخرج السيف من غمده. أن تقف أمام العالم بلا خوف ولا تردد ولا تلجلج، وأن تعلن، بوضوحٍ يكاد يجرح، أنك اخترت الجمال، وأنك لا تعرف طريقًا آخر. في السماوة، القصيدة ليست نصًا بل موقف. ليست كلامًا بل مصير. القصيدة رفيقة العمر، ومِحرابٌ تُصلي فيه الروح، وممرٌ ضيق لا يمرّ فيه إلا من سلّم روحه للشعر بلا قيدٍ أو شرط. من أراد أن يكون شاعرًا هناك فعليه أن يُلقي العالم خلف ظهره، وأن يدخل النار بقدميه، لا بوصفه مغامرًا، بل بوصفه عاشقًا يعرف أن الجرح جزء من الطريق. من هنا جاء باقر السماوي. جاء مثل نبتةٍ بريّة تشقّ التراب وحدها، بلا ماءٍ كثير ولا ظلٍ كثير، لكنها تُصرّ على أن تصعد نحو الضوء. ولد في السماوة، وكأنه ولد في بيتٍ من الشعر، ثم عاش في أكنافها، كأنما تعلّم منها كيف يستمع إلى همس الأشياء حين تتكلم بصوتٍ خافت. كان يمشي وهو يشعر أن صوتًا داخليًا يلحّ عليه، يطلب منه أن يكتب، وأن يفتح روحه للهواء، وأن يقف بالقرب من الحلم ليمنحه شكلًا. كان يقول: “رغم انحسار الورد من حولنا”. جملةٌ تبدو بسيطة، لكنها تحمل ما يكفي من الشجن لتغسل قلبًا كاملا. كأنه يرى العالم يتقلص، والجمال يتوارى، والورد يتراجع أمام غبار الأيام، لكنه في لحظةٍ ما، يرفع رأسه، ويضع يده على الأشياء من جديد، ثم ينتظر. الأمل لدى باقر ليس وردة، بل نسمة. ليس وعدًا كبيرا، بل إشارة صغيرة. لقاءٌ مع صديقٍ لم يجرّب الخذلان. قصيدة لشاعر مجهول. ابتسامةٌ تُشبه المطر حين ينزل خفيفًا على وجه طفلٍ نائم.
باقر السماوي يشبه الفقراء الكبار؛ أولئك الذين يملكون القليل، لكنهم يوزّعون الكثير. لا يريد مالا ولا جاها، لا يرغب بقيادة أسطول، ولا يحلم بقصرٍ على شاطئ بعيد. كل ما يطلبه من الدنيا “السعد و السوسنا”. يا للبساطة المدهشة، ويا للعمق الخفي! السعد مفهومٌ يعرفه الشعراء وحدهم، لأنهم يطاردون ظلاله في ساعات الفجر الأولى. أما السوسنة، فهي ليست زهرة عابرة، وليست استعارةً تأتي بالصدفة. إنه عالم في علوم النبات. يعرف السوسن كما يعرف أمه. يعرف اختلاف ألوانه؛ الأبيض الذي يشبه نقاء الروح، الأزرق الذي يشبه حزن السماء، الأصفر الذي يشبه دهشة طفل، والأحمر الذي يشبه جرحًا قديمًا لا يريد أن يندمل. السوسنة بالنسبة له ليست زهرة؛ إنها كائنٌ يتغير اللون فيه بتغير الأمل، ويصنع شكل السعادة بيديه. هنا يلتقي العالم بالشاعر. يتعاونان، ويتآخيان، ويصنعان تلك الخلطة السحرية التي تجعل من السعادة حدثًا صغيرًا، لكنه يكفي ليُضيء يومًا كاملا. باقر يكتب السعادة كما لو كان يرسم زهرةً في مختبره. يضع اللون بدقة، ويختار الرائحة بعناية، ثم يترك القصيدة تفتح عينيها وحدها.
هذا الشاعر يريد عالمًا يزدهي بالألوان الطبيعية. يريد أطفالًا يضحكون بلا خوف، ونساءً يتنفسن بلا قيد، ورجالًا يعرفون أن الرجولة ليست صوتًا مرتفعًا، بل قلبٌ يأنس بالضعف. يريد سينما “سكوب ملّون” بدل صخب العالم الرتيب. يريد العالم بسيطًا كما كانت السماوة يوم كانت تُغلق أبوابها باكرًا، وتترك الناس يتهامسون قرب النهر، أو يتبادلون أسرار الليل تحت ضوء النخل. باقر السماوي ليس شاعرًا فقط، ولا أكاديميًا فقط، ولا ابن مدينةٍ تُشبه الأغنية فقط. هو تلك الروح التي تُصرّ على أن تبحث عن الجمال في عالمٍ يتراجع فيه الورد، وتزداد فيه الوحشة، ويعلو فيه الغبار. شاعرٌ يريد أن يقول للناس: هناك فسحةٌ ما تزال تنتظرنا، وهناك نسمة ستأتي، وهناك زهرة سوسن ستفتح بالقرب من القلب، حتى لو ظنّ الجميع أن الأرض لم تعد تُنبت شيئًا. باقر السماوي مسرّات قليلة، نعم. لكن تلك المسرّات القليلة تكفي لكتابة حياة كاملة، وتكفي لنجعل العالم أقل وحشة، وأكثر احتمالًا، وأكثر قربًا من وجوهنا التي تعبت من الانتظار.

أ. د. إسماعيل نوري الربيعي