
في زمنٍ يتآكل فيه المعنى وتتوارى المشاعر خلف أقنعة الحياة اليومية، تبرز الكتابة كمهرب أخير، كبوابة نسترد عبرها صوت القلوب حين يُخذلها الواقع. رواية «رسائل نادية» ليست سردًا تقليديًا للأحداث، بل هي نسيج من الرسائل المتبادلة، نصوص حية كُتبت بروحٍ مرتجفة وشغفٍ لا يخبو، تجمع بين نادية — البطلة والراوية — وصديقاتها، وأفراد أسرتها، وزوجها الحبيب محمود.
هي رسائل تمثل شذرات من الروح، وتقاطعات من الذاكرة، تكشف عمّا لم يُقل، وتضيء ما بين السطور. رسائل لا تروي فقط حكاية نادية، بل ترسم ملامح مجتمع بأسره، وتُظهر تحولات الإنسان وهو يصارع الفقد، والقهر، والحنين، ثم ينهض من رماده.
أدب الرسائل: من البوح إلى الفن
قبل التوغل في عمق الرواية، لا بد من التوقف عند الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه: أدب الرسائل، وهو فن نثري عريق، يجمع بين صدق البوح وثراء التوثيق. لا تقتصر الرسالة فيه على نقل المعنى، بل تتحول إلى وعاء للعاطفة، وأداة لتأمل الذات في الآخر والعالم. في الرسالة، يتقاطع الخاص بالعام، واليومي بالفلسفي، والعاطفي بالتاريخي، لتصبح الكلمة مرآةً للروح وزمنها.
وإذا كانت الخصائص الجوهرية لأدب الرسائل تكمن في عفويته، وتوثيقه للحظات إنسانية فارقة، وتكثيفه الرمزي، فإن رواية «رسائل نادية» تتماهى مع هذه الخصائص بدرجة لافتة. نادية تكتب لأن البعد قسري، ولأنها تبحث في البوح عن عزاء، وفي الكلمة عن خلاص. تراسل أشخاصًا تجمعها بهم وشائج وجدانية، وتكشف، في الوقت ذاته، عن ملامح الحياة الاجتماعية والنفسية في واقع عربي تتوزعه القسوة والهشاشة.
الحكي في الرسالة والحوار
الرواية لا تكتفي ببنية الرسائل، بل تتخللها حوارات تضيف بعدًا توثيقيًا، خاصة في الجوانب الثقافية والفنية. من بين هذه الحوارات ما جرى بين نادية وزوجها محمود، حيث نُطل على لحظات مهمة في تاريخ الفن العربي، كأغنية “ست الحبايب” وعلاقة أم كلثوم بالشاعر أحمد رامي، كما يُستعرض أوبريت “الليلة الكبيرة” كعلامة ثقافية. ورغم قيمة هذه الإضاءات، يؤخذ على الكاتبة ميلها أحيانًا إلى المباشرة والتقريرية، مما يضعف الطابع الأدبي ويقحمه في سياق التوثيق الخالص.
نادية: من القهر إلى التحقق
نادية، البطلة التي تكتب سيرتها بالرسائل، امرأة من الإسكندرية، بسيطة ومكافحة، تُجبرها قسوة الحياة على الاغتراب والعمل خياطة في قصر أمير سعودي. لكن الله يُجبرها ويضع فى طريقها محمود الذى يساندها فى القصر ثم فى الوطن، يتزوجها ويحققا النجاح معا لتصبح سيدة أعمال ومديرة لمشغل ناجح. يتجلى تطورها النفسي والاجتماعي تدريجيًا: من امرأة مقهورة في كنف زوج شرير، إلى إنسانة ناضجة قادرة على اتخاذ قراراتها، وبناء مستقبلها رغم الخسارات.
تقول عنها الأميرة العنود، في رسالة تعبّر عن مدى أثر نادية الإنساني:
“بكِ يا نادية شيء ما يجعل الجميع يحكون لكِ حكاياتهم، وينفضون أحزانهم على كتفيكِ… أنت كإسفنجة البحر، فظلي هكذا دومًا.” ص94
محمود: الوفاء حين يُكتب بالحياة
محمود، السائق المثقف، الذي صار زوجًا وكاتبًا ومربيًا، يمثل الوجه المضيء للرجل العربي: المتزن، الواعي، الحنون. رغم حبه الكبير لنادية، لا يستعجل البوح به، بل ينتظر حتى تحلّ عدتها الشرعية بعد طلاقها، فيتقدم للزواج منها. حبه صامت أولًا، لكنه ممتد، يُثمر نجاحًا وشراكة حقيقية، ثم يتحول بعد وفاتها إلى وفاء نادر، يصير فيه الأب والحبيب والجد، ويكتب عنها فيلمًا يُخلّدها.
يتحدث محمود عن الفن والتاريخ، وتحديدًا عن نفرتيتي وأخناتون، فيسهم في إبراز البعد الثقافي للرواية، ويُرسّخ علاقتها بالتاريخ والهوية.
هاشم وسعد: الشر المركب في مقابل نادية ومحمود، تقف شخصيتان تشكّلان ضلعي الشر: هاشم، سكرتير الأمير، شخصية متسلطة ومتحرشة، تُحرّك الأحداث بدافع الشهوة والهيمنة. وهو من أقنع زوج نادية المنحرف بإرسالها للعمل في القصر، ثم خطط للزواج منها بالإكراه. لكنه ينكسر في نهاية المطاف، إذ يظهر مشلولًا، يطلب الصفح ممن ظلمه.
أما سعد، زوج نادية الأول، فيجسد القسوة والنرجسية: منحرف السلوك، لا يعرف الرحمة، حتى تجاه ابنه المعاق الذي ينفر منه، ثم يطلق نادية بلا خجل، ويقطع صلته بولديه بجفاء فجّ. شخصية تسقط أخلاقيًا واجتماعيًا، وتمثل نقيضًا قاسيًا لصورة الزوج والداعم التي يجسدها محمود.
شخصيات ثانوية وإشارية تثري النسيج السردي الأميرة العنود ووالدتها المحامية هدى تمثلان نموذجًا نسائيًا آخر: القادرة على الدعم والتعاطف، حتى من داخل بنية طبقية حادة. وكذلك آمال مديرة القصر، نموذج المرأة الصبورة والمضحية. أما الشخصيات الإشارية — كأم نادية، شقيقتيها واخيها ، وصديقاتها — فتؤدي أدوارًا رمزية، تعكس تنوع الحياة الاجتماعية والوجدانية حول البطلة.
لغة الرواية تتشكل بين مستويين:
الأول: اللغة الرسالية، التي تكتسب طابعًا حميميًا، وتُكتب بعفوية وتلقائية، تجسّد صدق البوح وتنهل من التعبير اليومي، مما يُضفي على الرسائل صدقًا إنسانيًا.
الثاني: اللغة السردية المضمنة، حيث يتداخل الوصف مع الحكي في ثنايا الرسائل أو الحوارات، وتبرز محاولات الكاتبة لتطعيم النص بالإيحاءات الثقافية والفنية.
ومع ذلك، لا تخلو الرواية من فترات تعاني فيها اللغة من الميل إلى التقريرية، خاصة في المقاطع التي تحاول تقديم معلومات تاريخية أو توثيقية، فيغيب الإيحاء لصالح المباشرة، ويضعف التوتر الجمالي للنص. كما تقع الكاتبة أحيانًا في فخ الإسهاب، فتفصّل في مواضع لا تستحق التمدد، بينما تختزل في مواضع مصيرية، مثل وفاة البطلة نادية، التي جاءت كغمضة عين، بلا تمهيد سردي كافٍ.
لكن لا يمكن إنكار أن الكاتبة نجحت في منح كل شخصية صوتًا خاصًا بها، عبر اختيار مفردات مناسبة لموقعها الاجتماعي والثقافي، خاصة نادية التي تتحدث بلغة بسيطة شفيفة، تقنع القارئ بأنها تكتب من قلبها لا من خلف قناع لغوي.
البنية السردية: مراوغة الترتيب الزمني وحضور التوازي تقوم الرواية على بنية فسيفسائية، لا تتبع خطًا سرديًا زمنيًا مستقيمًا، بل تُفكك الحدث وتعيد تركيبه من خلال الرسائل المتبادلة. هذا التفكك الزمني لا يُربك القارئ، بل يخلق نوعًا من الترقب، ويمنح النص طابعًا تأمليًا، حيث تُستعاد لحظات الماضي في ضوء الحاضر، ويعاد تشكيل الحاضر من بقايا الأمس.
تبدأ الرواية من نقطة وسطى في السرد: عمل نادية في القصر السعودي، قبل أن ترتد في رسالة لاحقة إلى سيرتها الأولى في الإسكندرية، وأسرتها الفقيرة، وشقيقتيها العاملتين في خدمة البيوت. هذا الارتداد إلى الماضي يثري البعد النفسي للشخصية، ويمنحها عمقًا إنسانيًا، ويجعل حاضرها أكثر قابلية للفهم والتعاطف.
ثم تتقدم الرواية بخيوط متوازية بين الرسائل التي تكتبها نادية، والردود التي تصلها، إلى أن يُستبدل صوت نادية بعد وفاتها بصوت محمود، زوجها، في ما يشبه التحول السردي من الراوية إلى الراوي.
هذا البناء غير الخطي يخدم طبيعة النص الرسالي، الذي لا يُروى وفق ترتيب «كرونولوجي»، بل حسب نبض الذاكرة وتدفق المشاعر. ومع ذلك، فإن بعض الرسائل تقع في التكرار، وتفتقر إلى التنوع البنائي، مما قد يرهق القارئ ويبطئ إيقاع القراءة.
الزمن الخارجي (التاريخي): يتموضع في تسعينيات القرن الماضي، ويُستدل عليه بالإشارة إلى غزو العراق للكويت، وهو حدث فارق يعكس اضطراب السياق الإقليمي، ويمثل خلفية سياسية غير مباشرة للرواية. رغم قلة الإشارات التاريخية، فإنها تحمل دلالات ثقيلة، تُقحم الرواية ضمن زمن عربي مأزوم، تُقهر فيه النساء وتُغترب فيه الأحلام.
المكان: بين جغرافيا الخارج وأمكنة الذات
المكان في الرواية ليس مجرد خلفية للأحداث، بل يُشكل دلالة وجودية، تتغير بتغير المواقف:
السعودية: أرض الغربة والعمل القسري، حيث تبدأ نادية كخياطة في قصر أمير، وتتعرض للتهديد والانكسار، لكنها تجد سندًا في الأميرة العنود ومحمود، وتُمنح فرصة جديدة.
الإسكندرية: موطن النشأة الأولى، وشاهد الفقر والحرمان، ومسقط القلب. تظل في الخلفية كذاكرة، لكنها لا تغيب عن وجدان نادية.
القاهرة: لحظة تحول عاطفي وسياحي، تمثل انفتاح نادية ومحمود على الحياة، وتعبير عن حياة اسرية سعيدة
لندن: محطة ابنتها مها، ومؤشر على تحولات الجيل التالي، وكأنها ترمز لأفق آخر، أكثر انفتاحًا وغرابة.
يتنقل السرد بين هذه الأمكنة، ويمنحها طابعًا وجدانيًا. فكل مكان لا يُقدم بوصفه حيّزًا جغرافيًا فقط، بل بوصفه مرآةً لتحولات الذات.
يؤخذ على النص اقحام موضوع حول مرض ms. كما ان الزوج فى احدى رسائله لنادية بعد وفاتها يقول ابننا البكرى وابننا الصغير، رغم ان الابنين تؤامين..وايضا جاء فرح الابنة بعد اسبوعين من الوفاة! كيف هذا؟! فليس من عاداتنا ان يحدث هذا.
ومع ذلك:
نجحت نهى عاصم في تشكيل عالمٍ روائي يتنفس عبر الرسائل، ويمتد عبر الزمان والمكان ليعكس مصائر النساء في المجتمعات العربية، ويحاور قضايا الغربة، والكرامة، والحب، والفقد. لكن الرواية، رغم صدقها الإنساني وثراء شخصياتها، تُعاني لغويًا من بعض الارتباك بين التوثيق الإخباري والفعل الفني، وتحتاج في بنائها إلى اقتصاد سردي أكبر، يُجنبها الاستطراد، ويُركز على اللحظات الدرامية الخالقة للدهشة.
ومع ذلك، تبقى «رسائل نادية» شهادة مكتوبة بالحنين، وبوحًا مُرسلًا من امرأة عادية، استطاعت أن تهزم القهر بالكلمة، وأن تعيش في قلوب اسرتها وصديقاتها بعد أن غابت عن الحياة.