الدكتور سعيد عيسى

تظهر أغنية «يا دنيا دوّارة»– عند تحليلها بعيونٍ أنثروبولوجيّةٍ وسوسيولوجيّةٍ – كوثيقةٍ صغيرةٍ مكثّفةٍ تُجسّد لحظةً شعوريّةً يعيشها جيلٌ كامل. فهي ليست مجرّد مقطعٍ غنائيٍّ يُتداوَل في الجلسات والسيّارات ومنصّات «الريلز»، بل نقطة تلاقي بين النص واللّحن والفضاء الاجتماعيّ والرقميّ، بحيث يصعب فصلها عن الظروف التي أنتجتها وتُستهلَك في إطارها.
من الجملة الأولى: «يا دنيا دوّارة»، ندخل مباشرةً إلى قلب الميثولوجيا الشعبيّة العربيّة. فـ«الدنيا» هنا ليست مجرّد زمنٍ يمرّ، بل كيانٌ حيٌّ يُخاطَب ويُعاتَب، ويُحمَّل مسؤوليّة الخذلان. يعيد هذا الخطاب إحياء تقليدٍ قديمٍ هو «سبّ الدهر» أو لوم الزّمن، حيث يُنزَع الفعل عن البشر ويُلْقَى على كاهل قوّةٍ غامضةٍ اسمها «الزمان». ومن الناحية النفسيّة والاجتماعيّة، يؤدّي هذا الدور وظيفةً مزدوجة:
يخفّف عن الفرد شعوره بالذنب أو الفشل الشّخصيّ.
يمنحه لغةً مشتركةً يعبّر بها عن وجعه دون التّفصيل.
كلّ من يقول «يا دنيا دوّارة» لا يحتاج لشرح قصته؛ العبارة نفسها تكفي لتفهم أنّه مرّ بتجربة خذلان.
وتقترن «الدنيا الدوّارة» بصورة «أعدّ نجوم». فالنجوم، في المخيال العربيّ، رمز للثبات، لكنّها في هذا السياق تتحوّل إلى «شاهدٍ صامتٍ» على سهر المهموم. فعل «عدّ النجوم» ليس بريئًا؛ إنّه طقسٌ من طقوس الحبس الوجدانيّ، شخصٌ ساهر، الزّمن عنده متجمّد، فيحاول ملء الفراغ بعدّ شيءٍ بعيدٍ لا يُمسك. فتتحوّل الليلة المفتوحة إلى زنزانةٍ نفسيّة، والفضاء الكونيّ إلى جدارٍ يعكس أحزانه. هنا تظهر ثنائيّة دقيقة: دنيا متقلّبةٌ لا تُمسك، ونجومٌ ثابتةٌ لا تُطال. بينهما يتأرجح الفرد دون سيطرة.
وتأتي جملة الاستنكار المتكرّرة: «شلون شلون دنيتنا؟». هذا السؤال لا يبحث عن جوابٍ معرفيّ، بل يعبّر عن «الصّدمة المعرفيّة»، مصطلحٌ نفسيٌّ يشير إلى اصطدام تصوّراتنا عن العالم (الوفاء، العِشْرة) بالواقع (الخيانة، الغدر). هو صرخة احتجاجٍ على انقلاب العالم الذي تربّينا على تصوّره كـ«نخوةٍ وعزوةٍ» إلى عالم «غدرٍ ومصلحةٍ». إنّها إشارةٌ إلى عدم عدالةٍ وجوديّة، وانهيار القيم التي صدّقنا بثباتها.
بعد تفكيك النص، ننتقل إلى أداء الكلمات. هنا يأتي دور علم موسيقى الشّعوب (Ethnomusicology). صوت عمر العمر «خامٌ» يحوي بُحّة تعبٍ وخشونةٍ رجوليّةٍ وتفاوتاتٍ بسيطةٍ في الأداء، تضيف إلى العمل مسحة «صدقٍ». هذا الصوت لا يشبه المغنّي الأكاديميّ في استوديو فاخر، بل شابًّا يجلس مع الجمهور في استراحةٍ أو سيّارة، يمسك العود ويقول ما لا يجرؤون على قوله. وهذه المصداقيّة سرّ انتشار الأغنية؛ فالجمهور يبحث عن صوتٍ يشبهه، لا عن كمالٍ فنّيّ.
ويزداد التأثير بالمفارقة الإيقاعيّة: كلامٌ حزين، لكن الإيقاع راقصٌ سريعٌ يحرّك الجسد. وهنا نلمس ظاهرةً ثقافيّةً عربيّةً معروفة: «الرّقص على الجراح». فبدل أن يكون الحزن سكونًا وانطواءً، يتحوّل إلى حركة تصفيقٍ ورقصٍ جماعيّ. هذه الحركة جسديّةٌ لطرد الألم؛ الجسد يهتزّ كأنّه يريد أن ينفض ثقل الهمّ. فتتحوّل الأغنية إلى أداة «تطهيرٍ عاطفيّ».
وارتباط الأغنية بنمط «الجلسة الشعبية» يبرز بُعد سوسيولوجيّ المكان. السياق الأبرز لاستخدامها هو السيارة ليلاً، قيادةٌ سريعة، أضواء مدينة، أصدقاء يتسامرون، أو شخصٌ وحيدٌ يرفع الصوت. في المدن العربيّة الحديثة، أصبحت السيارة «شرنقةً» يهرب فيها الشاب من ضيق البيت ومجتمع المراقبة. في هذه المساحة المغلقة، يستطيع الغناء بصوتٍ عالٍ وإعادة المقطع عشرات المرات دون لوم. فتصبح الأغنية «موسيقى تصويريةً» لرحلةٍ داخليّة.
الليل أيضًا ليس ظرفًا زمانيًّا محايدًا. في الثقافة الشّبابيّة، هو زمن سقوط الأقنعة الاجتماعيّة، نهارًا أنت موظفٌ أو ابن عائلةٍ ملتزمًا، أما ليلاً – ومع هذه الأغنية – فتظهر الهوية الحقيقيّة: «الإنسان المجروح». فتتزاوج عناصر الفضاء المغلق (السيارة)، الفضاء المفتوح (الطريق)، الظلام، والصوت العالي. كلّها تخلق مسرحًا متحركًا للوجع.
من زاويةٍ سيكولوجيّةٍ واجتماعيّة، يقدم النص نموذجًا لـ«الذات الضّحية». حين يقول المغنّي: «أعزّ النّاس خانتنا»، فهو يتحدث عن انهيار دائرة الثقة الأهمّ، القريب أو الصديق. في المجتمعات التقليديّة، «العِزوة» أساس الهوية؛ فإذا تحوّل الأعزّ إلى مصدر ألم، اهتزّت البنية الاجتماعيّة الحميمة. وهذا الشعور يلتقي مع مفهوم «الحداثة السائلة» (زيجمونت باومان)، حيث تصبح العلاقات هشّةً ومؤقتةً ومشروطةً بالمصلحة. الشّباب يردّدون الأغنية شعورًا بأنّ الدنيا ليست غير عادلة فحسب، بل غير موثوقة.
لكن الفرد لا يبقى أسير الضحية منفردًا؛ فالأغنية تفتح باب «التنفيس الجماعي». في الحفلات والتعليقات على المقاطع، يتكرر: «كأنها تتكلم عني»، «كلنا نفس الوجع». فيُنشأ «مجتمع المتألمين» الافتراضي أو الواقعي، لا يجمعه مكان واحد، لكنه يتشارك الشعور بالخسارة. الأغنية تصبح لغةً مشتركةً لهذا المجتمع؛ مشاركة المقطع في «الستوري» كأنها لافتة: «أنا أيضًا جُرحت».
ويبرز هنا البعد الجندري المرتبط بالذكورة والعاطفة. في التقاليد العربية، يُتوقع من الرجل أن يكون متحفظًا، ولا يُسمح له بالبكاء علنًا. لكن الغناء الشعبي يوفّر مخرجًا: يمكنه أن يصرخ بألمه وهو يغني («خانوني»، «كسّروا خاطري») دون أن يُتَّهَم بالضعف. فهو «يطرب» و«ينكت» مع أصحابه، لكن بين السطور يخرج مخزونه من الحزن. الأغنية تقوم دور «البكاء المقنَّع».
هذا التأثير يتضخّم في الفضاء الرقمي. على منصات مثل تيك توك وإنستغرام، تنتشر الأغنية في شكل مقاطع مقتطعة قصيرة («قابلية التجزئة»). تُقتطع جملة «يا دنيا دوارة» وتُعاد على آلاف الفيديوهات: طريق ممطر، كوب قهوة، غروب. فيتحول المقطع إلى «فلتر عاطفي»: أي مشهد عادي يكتسب دلالة درامية بمجرد إضافة الصوت. وفي هذا الفضاء، تصبح الأغنية «ميم حزينة»: مرجعًا مشتركًا يعبّر عن خيبة دون شرح. يكفي أن يضع شاب مقطعًا من وجهه الصامت مع الأغنية ليفهم متابعوه قصته.
وأضف إلى ذلك البعد الطبقي/المكاني. هذه الجمالية مرتبطة بثقافة شباب الأطراف والأحياء المتوسطة أو الشعبية، الذين يعيشون بين عالم البداوة/القرية وعالم المدينة الحديثة. السيارة عندهم ليست وسيلة نقل فحسب، بل امتداد لهويتهم: هي «الناقة الحديثة»، والطرق الطويلة هي «البر» الجديد. حين تسير السيارة ليلاً على طريق مظلم مع الأغنية، نستعيد صورة العربي القديم في الصحراء تحت النجوم يشكو همومه للفضاء. الفارق أن الشكوى تمر عبر سماعة بلوتوث وكاميرا هاتف ومنصة عالمية.
في النهاية، «يا دنيا دوّارة» ليست نصًا يشكو من غدر الزمن فحسب، بل مرآة لزمن مضطرب. تختصر شعور جيل يتأرجح بين ثبات القيم وتقلب الواقع. تستعير استعارة «الدوران» لوصف عالم فقد نقطة ارتكازه، وتستخدم إيقاعًا راقصًا ليُجعل هذا الفقدان محتملاً. في ظاهرها أغنية جلسة وسيارة وطرب، وفي باطنها اعتراف جماعي بالاغتراب: اغتراب عن العالم المثالي وعن علاقات حلمنا بثباتها فاكتشفنا هشاشتها. بهذا المعنى، هي ليست «ترندًا» عابرًا، بل فصل صغير من سيرة وجدانية يكتبها جيل كامل مع «الدنيا الدوّارة».